عاطف بشاي
يمثل صلاح حافظ قيمة عظيمة فى تاريخ الصحافة المصرية الحديثة.. فهو صاحب مدرسة صحفية فريدة ومميزة تعتبر الثالثة بعد المدرسة الأولى لـ«محمد التابعى» التى كانت تهتم بالرأى والتحليل السياسى.. والمدرسة الثانية لـ«مصطفى وعلى أمين» التى غيرت دور الصحيفة التى كانت تعتمد أساسًا على المقال.. فأصبحت تهتم بالخبر الصحفى المثير والخدمات الصحفية.. ويعترف «صلاح» نفسه من خلال عمله مع «مصطفى أمين»، رغم اتجاهه السياسى المعارض لمدرسة «أخبار اليوم» التى كانت متحيزة للملك فاروق والقصر وأحزاب الأقلية المعادية للوفد، وقال فى كتاب ذكريات صلاح حافظ الذى كتبه الباحث والصحفى المرموق «رشاد كامل» إنه كان شديد الإعجاب بالأسلوب الصحفى الجديد «لمصطفى أمين» وبمقالاته التى كان ينشرها فى مجلة آخر ساعة ومجلة الاثنين.. واعترف أن هذا الإعجاب أثر فى أسوبه حتى إنه كان يستخدمه داخل «روزاليوسف» حينما رأس تحريرها فيما بعد.
وتعتمد المدرسة الصحفية التى يتزعمها «صلاح حافظ» فى الصحافة المصرية المعاصرة على ذلك التزاوج الشيق بين الخبر والمقال والتحقيق الصحفى.. أو الشكل البراق والمضمون السياسى والمحتوى الاجتماعى الهام الذى يتفاعل تفاعلًا جادًا وحميميًا مع نبض الشارع.. ومشاكل المواطن البسيط واهتمامات الرأى العام.. وتقول فى ذلك الكاتبة الكبيرة «سناء البيسى» إن صلاح حافظ كان جديرًا بأن يحيى أى صحيفة أو مجلة من بعد موتها عندما يعزف على خلايا محرريها فإذا بهم يهبون من سباتهم العميق ليملأوا الدنيا حيوية وشغبًا وجدلًا وحوارًا.
فنهض بتوزيع «آخر ساعة» فى عام (1965) وحده من رقم لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة إلى أكثر من مائة ألف نسخة عندما كان فى موقع رئيس التحرير.. وفعل نفس الشىء عام (1977) عندما نهض بروزاليوسف- التى يوافق مولده فى شهر أكتوبر (1925) صدور عددها الأول ـ وهى توزع 7 آلاف نسخة ليصل توزيعها إلى 150 ألفًا.
وشهدت رحلة صلاح حافظ منذ بدايتها فى النضال السياسى ومن ثم التعبير عن قناعاته اليسارية فى الصحافة معارك كبيرة يعبر عنها فى مذكراته بقوله: كنت دائمًا أسير معتقداتى.. ولأننى عدو للطبقية وخصم لكافة صور التميز بينى وبين الانسان فقد جاءت صياغتى لباب «المجتمع» (الذى كان يحرره فى روزاليوسف منذ شبابه وشباب المجلة) صياغة تشهر بالطبقية وتسخر من صورها الفادحة والفاضحة.
لكن صلاح حافظ فى خصومته الفكرية باتجاهاته اليسارية مهع الكتاب أصحاب الاتجاهات اليمينية والمعادين للشيوعيين والماركسيين والاشتراكيين بكافة أطيافهم.. كان يقدم نموذجًا بديعًا وساميًا وراقيًا للخلق الإنسانى الرفيع.. فالخلاف المذهبى فى الرأى والعقيدة لا يعنى العداء الشخصى.. فسوف يذكر تاريخ الصحافة العلاقة الشخصية الجميلة التى كانت تربطه بـ«موسى صبرى» فهو صديقه الحميم. أو فلنقل «صديقه اللدود».. رغم التناحر فى الفكر.. والخصومة فى الرأى والتى شهدت معارك ضخمة بينهما على صفحات الجرائد والمجلات.. وقد ذكرتنى تلك العلاقة الحميمة وأنا أكتب هذه المقالة بالفيلم التليفزيونى الشهير.. «فوزية البرجوازية» الذى كتبت له السيناريو والحوار عن قصة قصيرة «لأحمد رجب» والفيلم تقوم فكرته على تشاحن وتطاحن أصحاب الاتجاهات السياسية المتناحرة وتضارب انتماءاتهم الأيديولوجية ما بين يمين ويسار واستخدامهم كافة أنواع التراشق اللفظى فى مصطلحات سياسية غامضة وملتبسة وغير دارجة بين الناس مثل: (برجوازى متعفن، يمينى رجعى، رأسمالى راديكالى، يسارى ديماجوجى...) أحدث الفيلم وقتها ضجة كبيرة من ردود الأفعال بين المثقفين لكنه أغضب بشكل ملموس كل المنتمين إلى اليسار وشنوا ضد الفيلم وضدى حملة شعواء واتهمنى نقادهم بتلك الاتهامات الشائعة من خيانة مزرية للتوجهات التقدمية المذهبية.. وعمالة منحطة تقوى الرجعية الفكرية.. وتواطؤ رخيص مع السلطة الفاشية.. وصرت منبوذًا بينهم.. يتأففون عن الحديث معى ويتجنبون لقائى.
تذكرت ذلك وأنا أطالع ما كتبه «صلاح حافظ» عن موسى صبرى: «كثيرًا ما يدهش الناس عندما يجدوننى أدافع عن موسى صبرى.. وذات يوم دهش أنور السادات عندما رأى موسى صبرى ينبرى أمامه للدفاع عنى فى اجتماع لمسؤولى الصحف قبل أن يجف مداد اشتباك صحفى بيننا سبق هذا الاجتماع بأسابيع قليلة.. والحقيقة أن أحدًا لم يفهم موسى مثلى فمشكلتهـ بصرف النظر عن موهبته الصحفية الخارقة.. وذوقه الأدبى الرفيع ـ أنه ولد بفطرته بالغ التطرف.. إذا اقتنع بقضية دافع عنها أكثر من أصحابها ويستمر فى الدفاع حتى ولو تنازلوا عنها.. أليست متعة أن تختلف مع إنسان ويظل يحبك وأن تتشاجر معه علنا وتظل تحبه.. وأن تشعر فى قرارة نفسك أنه مخلص فى رأيه مثلما أنت مخلص فى رأيك.. وأنكما فى حقيقة الأمر تسعيان إلى الهدف نفسه: تسعيان إلى الحقيقة؟!.
لم يكن إذًا صلاح حافظ من أصحاب التصنيفات المذهبية الجامدة التى كانت وستظل تصبغ حياتنا بالجمود والتوقع والعداء وكراهية الآخر.. وعدم القدرة على تجاوز الحدود الضيقة للسلوك الإنسانى المتعصب.. وغير القادر على التحليق فى سماء الحرية والرحابة.
كان كاتبًا عظيمًا.. وإنسانًا رائعًا.
نقلا عن المصرى اليوم