محمد أبو الغار
إحدى نائبات البرلمان فى إمبابة أعلنت على صفحتها أن هناك مشروعًا تمت الموافقة عليه بنقل مسرح البالون والسيرك القومى وملحقاتهما من مكانها الحالى لدائرتها فى إمبابة، وحدث غضب شديد من الجماهير المصرية وأصدرت وزيرة الثقافة بيانًا تقول فيه إن هذا أمر غير صحيح وإن البالون سيستمر فى مكانه. وفى الظروف العادية وفى بلاد العالم الأول يكون هذا الكلام نهائيًا، ولكن فى دول العالم الثالث الأمر مختلف لأسباب أحدها أن الوزير ليس صاحب القرار فى أشياء كثيرة داخل وزارته التى تحكمها وتقرر ما تراه أجهزة وسلطات خارج الوزارة تفوقه قوة وتتعدى يوميًا على سلطاته الدستورية. والأمر الثانى أن هناك تداخلًا بين سلطات الوزراء، فوزير الإسكان والمحافظ قد يكونان من أصحاب القرار والمسؤولية فى هذا الأمر. وقرأنا أن هناك قرارًا صدر من وزير الإسكان بالنقل، فمن نصدق؟ والأمر الثالث نقلًا عن الباحث المتميز إلهامى الميرغنى أن الحكومة فى مشروع الموازنة 2017/2018 نصت على عزمها بيع أراضى مسرح البالون والسيرك القومى بالإضافة إلى أرض المعارض بخمسة مليارات جنيه. المنطق يقول إن هذا الأمر يناقش فى مجلس الوزراء بعد أخذ رأى الخبراء، ثم إجراء حوار مجتمعى، لأنه أمر جماهيرى فى المقام الأول.
منذ سنوات سمعنا أن هناك مشروعًا بإزالة حديقة الحيوان من الجيزة وإنشاء مشروع استثمارى. واكتشفت الدولة حجم الغضب الشعبى فتوقف المشروع وأعلن أنه لم يكن مطروحًا أصلًا. كنت أتوقع أن تدعم الحكومة فورًا شراء فيل وزرافة أو أكثر لحديقة الحيوان ونحن نصرف الملايين فى أشياء مظهرية.
ويجب أن يكون واضحًا:
أولًا: مصر قوتها ونفوذها واستثماراتها الحقيقية هى فى القوة الناعمة، السينما المصرية إذا تركت لها الحرية وساهم فى تقدمها كبار المخرجين والفنانين والروائيين ومبدعى السيناريو وتستثمر فيها أموالًا مصرية تكون قادرة على اكتساح المنطقة، وتحقق إيرادات عظيمة لمصر كما كانت فى الأربعينيات إلى الستينيات من القرن الماضى، ولكن الضغوط على كل أنواع الفن بدون سبب حقيقى تسبب فى فقد مصر ثروة كبيرة. نحن تركنا مكاننا وأرباحنا ومجدنا وتخلينا عن القوة المصرية الناعمة ببساطة وسوء تصرف وسوء تقدير غريب.
ثانيًا: المسرح المصرى كان يأتى له العرب من كل مكان لمشاهدة مسرحيات عادل إمام وقبله فؤاد المهندس والمسرح القومى وغيرها. أين هذا المسرح الآن؟ المسرحيين موجودون والكتاب موجودون وكذلك الممثلون المتميزون ليكون عندنا مسرح عظيم جاد ومسرح تجارى أيضًا ناجح. لقد كانت العروض المسرحية تتنافس فى القاهرة والإسكندرية وكان هناك رواج فنى عظيم. أين ذلك؟ الدولة مسؤولة عن ذلك، عليها أن تشجع وتدعم وتهتم ولا تقف بالمرصاد بتعقيدات رقابية تضعف العمل الفنى.
ثالثًا: الأمر ليس فقط قوة ناعمة ومكاسب اقتصادية للوطن، ولكن الأمر المهم هو كيف نساعد المواطن المصرى البسيط عن طريق الفن الجميل؟ أن يشاهد الأفكار المختلفة والتجارب المتعددة ويتعرف على ثقافات غير ثقافته ويتعلم كيف يتعايش ويتعلم من هذا الحوار الثقافى. هذه هى الطريقة المثلى التى تمنع التطرف والفكر الواحد من التوغل فى عقول المصريين. الأمر ليس صعبًا ولا معقدًا وهذه المنجزات الثقافية وهذه الأعمال الفنية تكون للأطفال والشباب والكبار. هذه هى الطريقة الوحيدة لصياغة العقل المتفتح البعيد عن التطرف. المحاضرات التى يسمعونها فى التليفزيون والخطب التى يسمعونها فى المساجد قيمتها شديدة المحدودية وغير مؤثرة ولا تترك البصمة التى يتركها فيلم قصير أو مسرحية صغيرة. نحن فى بلد تعدى سكانه مائة مليون ويحتاج إلى مسارح وسينمات وصالات ثقافية عشرة أضعاف ما هو موجود الآن، فكيف لنا أن نغلق مقرًا ثقافيًا مهمًا ونقول إننا سوف ننقله إلى مكان آخر؟
رابعًا: الثقافة يجب أن تكون قريبة من الناس فى مدينة بحجم القاهرة ولا يجب أن تأخذ المواصلات وقتًا طويلًا ولا تكلفة كبيرة لتصل إلى مسرح أو سينما. مسرح البالون يقع فى حى طبقة متوسطة فى العجوزة ومدينة الأوقاف وقريب جدًا من أحياء شعبية فى ميت عقبة وإمبابة وبولاق وكل العشوائيات خلف سكة حديد الصعيد. كل هذه المناطق تحتاج إلى رئة ثقافية وهذا ليس فقط للترفيه، ولكن أيضًا لتكتسب مناعة ضد التطرف.
خامسًا: أصدرت وزيرة الثقافة بيانًا ترفض فيه النقل، وكنت أتوقع من عدد من الوزراء المثقفين والذين يعرفون خطورة غسيل مخ المصريين بالدفاع عن عقل مصر. وقد عاد البرلمان المصرى الذى تمتع بغضب شعبى ويأس من أدائه، ولكن مازال هناك بارقة أمل فى أن يقدم شيئًا حقيقيًا يقف به مع الشعب الذى انتخبه، وأعتقد أن الحفاظ على هذه المنابر الفنية والثقافية والدفاع عنها أحسن بكثير من الحديث عن السفاح هتلر الذى قتل ملايين من البشر. أعتقد أن على رئيس مجلس الوزراء أن يقف موقفًا حازمًا فى هذا الأمر فهو ليس فى حاجة إلى تكدس وتلوث هذه المنطقة المزدحمة أصلًا.
صدرت بعض الإجراءات الإيجابية الطفيفة لتحسين ظروف المواطن الاقتصادية، ولكننا ننتظر انفراجة أكبر فى الأمور الثقافية والفنية والإعلام حتى تعود إلى مصر مكانتها ونتخلص من غسيل مخ المصريين الذى أدى إلى كوارث الإرهاب، وأرجو أن يتزامن ذلك مع انفراجة ديمقراطية تؤدى إلى خروج كل من لا يثبت عليه الاشتراك أو التضامن مع عمل إرهابى.
إن تحقق كل ذلك سوف تكون أول خطوة نحو الهدوء الذى سوف يتحقق فقط بالتفاهم والتراضى والالتفات إلى الرأى الآخر.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك
نقلا عن المصرى اليوم