المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
حذر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من إمكانية اندلاع حرب أهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهل ينتظر أمريكا مصير الاتحاد السوفيتي؟
هل تصبح الحياة هناك بعد 10-20 عاما أصعب من الحياة في سوريا الآن؟
لقد أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بصفة عامة يمرّان بأزمة، سوف تسفر نتائجها عن نهاية لعصر هيمنة الحضارة الأوروبية، وفقدان الولايات المتحدة الأمريكية لمكانة القوة الأعظم في العالم. لكن كيف ستكون تداعيات ذلك على الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها؟
لم يعد خافيا أن ظواهر مثل: دونالد ترامب، بوريس جونسون، البريكست، محاولات انفصال كاتالونيا، الربيع العربي، وغيرها من الظواهر المشابهة حول العالم ليست سوى دليل على تفاقم أزمة النظام العالمي. فالأزمات تعصف بكل دولة على حدة في أكثر القضايا إيلاما، وهي قضايا قد تختلف من دولة لأخرى، لكن مصدرها جميعا واحد.
بكلمات أبسط، أصبح البشر حول العالم يعيشون في ظروف أسوأ، أصبحوا غير راضين عن حكوماتهم، ويرفضون الانصياع لها. وأمام ذلك تبدو النخب السياسية القديمة عاجزة ومرتبكة، فلم تعد الأساليب القديمة تصلح للإدارة، بالتزامن مع تدهور الأوضاع السياسية من سيء إلى أسوأ، بينما لا تبدو هناك في الأفق أي حلول مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتلاشي أي أمل في نهايات سعيدة.
ترى ما هي الأزمة الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية كنظام ودولة؟ وما هي المشكلات المزعجة التي تؤرقها؟ وهل يمكن أن يؤدي التفاقم السريع لهذه المشكلات إلى تدهور في مستوى المعيشة، واندلاع حرب أهلية؟ وحينها، من سيتعارك مع من؟
إن المشكلات الأساسية في الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث:
تطور "العالم الثالث" سابقا على نحو أصبحت معه الصناعة الأمريكية عاجزة عن المنافسة، بحيث لم يعد أمام الشركات والمصانع الأمريكية سوى أن تخرج بمصانعها إلى الخارج، أو أن تخفض من رواتب عمالها على نحو كبير، حتى تقلل من سعر البضائع، وهو ما سيؤدي في الحالتين إلى انخفاض مستوى المعيشة، ومن ثم إلى أزمة سياسية. ونرى هذا السياق المحاولات اليائسة لدونالد ترامب لإيقاف هذا التطور الحتمي، الذي سوف يؤدي إلى استمرار الولايات المتحدة الأمريكية في خسارة المنافسة، وما يتبع ذلك من أزمات اجتماعية وازدياد في حدة الصراع السياسي الداخلي.
المسألة العرقية: لفترة طويلة لم يمثل التنوع العرقي والإثني (القومي) في الولايات المتحدة الأمريكية خطرا، بل كان حاجزا منيعا للأزمات، لأن عملية الجمع بين 100 شخص ينتمون لخلفيات عرقية مختلفة على أساس المنشأ وإنشاء أحزاب سياسية على أسس عرقية كانت أمرا مستحيلا. أما اليوم فقد اختلفت الخريطة الديموغرافية للولايات المتحدة الأمريكية، فتوحد المواطنون من ذوي الأصول الإفريقية، وازداد عدد المواطنين من أصول أمريكية لاتينية، ما ينذر بأنهم سيصبحون أغلبية في المستقبل القريب. وجاءت اللحظة التي أصبحت فيها أقلية عرقية معينة، غير بيضاء، تهيمن على مساحة كبيرة من الأراضي. فهذه، على سبيل المثال، خريطة توضح أين يسكن 32 مليون نسمة من المكسيكيين، وهذه خريطة أخرى توضح أين يعيش 50 مليون من الأمريكيين المتحدثين باللغة الإسبانية، وهذه خريطة توضح أين يعيش 231 مليون أمريكي أبيض، وهذه خريطة توضح أين يعيش 41 مليون من الأمريكيين السود. وتلك الخرائط مبنية على بيانات تعود لعام 2013، وقد انخفضت نسبة العرق الأبيض منذ ذلك الحين، على حساب ازدياد نسبة الأعراق الأخرى من السود واللاتينيين وغيرهم من الأقليات. ووفقا لـ "بيزنس إنسايدر" Business Insider، ففي معظم المدن الأمريكية الكبرى، وفي أربع ولايات، يمثل البيض أقلية عرقية، بينما تشير التوقعات إلى أنهم سوف يفقدون أغلبيتهم في الولايات المتحدة الأمريكية بحلول عام 2045. بل إن الشباب الأمريكي الأبيض، أصغر من سن 18 عاما، في عام 2020، سيصبح أقلية. وخلال عشر سنوات من الآن، لن يمثل البيض أغلبية من هم أصغر من 30 عاما، وتلك هي فئة الشباب، التي تحارب وتصنع الثورات، لذلك فسوف يحدث التغيير، قبل أن يفقد البيض أغلبيتهم السكانية في الولايات المتحدة الأمريكية بفترة طويلة. فسوف يصبح الأمريكيون البيض شيوخا متقاعدين، يرصدون المشهد على شاشات التلفزيون ولا يشاركون فيه.
واستنادا إلى ما سبق، فإن النظام السياسي الأمريكي المبني على حزبين، والذي يصدّر وهم الاختيار بين يمين ويسار "الأموال الكبرى"، قد أصبح خارج إطار الزمن. لم يكن هذا النظام ديمقراطيا في يوم من الأيام، وإنما كان يصدّر وهم الديمقراطية ومشاركة الشعب في الاختيار وإدارة البلاد، الشعب الذي يحصل كل 4 سنوات على جرعة من الأمل تكفيه لما تبقى من الزمن حتى الانتخابات المقبلة. لقد فقد الأمريكيون الإيمان بنظامهم السياسي، وهم يرون أن شيئا لا يتغير، بصرف النظر عن تصويتهم، وهذا هو التحدي الأول. أما التحدي الثاني، فهو غياب الأحزاب السياسية في البلاد، التي تدافع عن مصالح الأقليات العرقية، في الوقت الذي ستصبح فيه هذه الأقليات قريبا أغلبية، بينما لا تملك اللغة الإسبانية، التي تعد اللغة الثانية بعد الإنجليزية، ويتحدث بها عشرات الملايين من المواطنين الأمريكيين، لا تملك وضعا رسميا في البلاد، وتلك مشكلة بكل تأكيد.
إننا نرى كيف تحاول النخب الأمريكية بكل الطرق الوقوف أمام ظهور أحزاب على أساس عرقي، لكن الحزب الديمقراطي يتحول إلى حزب يدافع عن مصالح الأقليات، بينما يجتمع البيض في الحزب الجمهوري، الذي يتحول بدوره إلى حزب عنصري، معاد للأقليات، على حد تعبير البعض. أي أن التفسخ العرقي يتسرب على أية حال إلى النظام السياسي الأمريكي، وسوف يتحول مع مرور الوقت إلى صراع بين أحزاب تمثل في جوهرها صراعا بين مجموعات عرقية مختلفة.
وستبلغ هذه المشكلات جميعا ذروتها حينما ينهار الهرم الائتماني، وهو ما سيوجه ضربة قاصمة للاقتصاد والتجارة العالميين. وحينها سوف تعاني الدول التي لجأت لطباعة تريليونات الدولار واليورو والين، في محاولة لتأجيل الانهيار، من تضخم هائل كالذي عانت منه روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي عانت منه زيمبابوي، والذي تعاني منه الآن فنزويلا.
وسوف تتعقد كل الأزمات. دعونا نذكر أن اندلاع ثورات الربيع العربي كان نتيجة عجز العرب عن تحمل تبعات المشكلات الاقتصادية في البلاد، بعد ما سببته موجة الجفاف التي اجتاحت روسيا عام 2011 من ارتفاع في أسعار القمح في الأسواق العالمية، وهو ما كان القشة التي قصمت ظهر البعير. وإذا كان المجتمع الأمريكي منقسم على نفسه، في الوقت الذي يتربع فيه الأمريكيون على قمة الدول ذات مستوى المعيشة المرتفعة، فما الذي ننتظره حينما تختفي البضائع من رفوف المحال التجارية؟
إذن، من الواضح أن هناك بعض ظواهر تختمر لبذور حرب أهلية عرقية داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
وبينما تكتسب الحرب الأهلية السورية استمراريتها ودمويتها من المكونات العرقية المتناحرة داخل المجتمع السوري، وتتشابه معها في هذا السياق الحرب الأهلية اللبنانية! فإن الولايات المتحدة الأمريكية من وجهة النظر هذه، تتفوق على هذين المثالين بمراحل! ففي كل مدينة، ونعني هنا حرفيا كل مدينة، تقسّم أحياء المدينة إلى أحياء للبيض، وأخرى للسود، وثالثة للأمريكيين اللاتينيين. وعلى الرغم من كافة الجهود المبذولة فإن مفهوم "التمازج العرقي" قد فشل، وبالإمكان رؤية ذلك بوضوح في بعض أعمال الشغب، التي تظهر بين الحين والآخر من السود، بعد مقتل مراهق على يد رجال الشرطة على سبيل المثال.
وجميعنا نتذكر كيف كانت مدن سورية، تحت سيطرة القوات الحكومية، محاطة بجيوب يسيطر عليها المسلحون. تخيلوا ما الذي يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، وتخيلوا كم دمشق، وكم بيروت يمكن أن تنشأ في المجتمعات الأمريكية!! دعونا نشاهد خريطة الجيوب التي يمكن أن تتصارع فيما بينها في هذه المدن.
كذلك هناك البعد الاقتصادي، حينما تتوقف المدن التي تتركز فيها الصناعة عن العمل كوحدة واحدة، ما الذي يمكن أن يحدث حينئذ في الاقتصاد؟ سوف تغيب شمس القوة الاقتصادية العظمى عن الولايات المتحدة الأمريكية لعقود قادمة.
ترى كم عام سيمضي، وكم تطهير عرقي سوف ترتكبه المجموعات العرقية الأمريكية المختلفة ضد بعضها البعض، وكم من أنهار الدماء ستسيل، قبل أن تتكون في الولايات المتحدة الأمريكية من جديد كيانات ودويلات ذات نسيج متماسك، تسمح بوجود سلطة مستقرة، وإعادة لبناء الاقتصاد؟ إن تلك المرحلة لم تبدأ في سوريا بعد، كما أنه ليس من المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية على هذا النحو طويلا، وسوف تقسم على الأقل إلى ثلاثة كيانات: البيض، والسود، واللاتينيين.
بالطبع لازالت الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ باحتياطي من الصلادة، ولم تصل التحولات الديموغرافية فيها إلى حدود الخطر بعد، لكن تلك مسألة وقت لا أكثر، وانهيار العولمة والهرم الائتماني سوف يسرّعان من وتيرة تلك التحولات.
لا يوجد مخرج آمن من أزمة الاقتصاد العالمي للولايات المتحدة الأمريكية، ربما لهذا السبب تستمر البنوك الغربية في طبع الأوراق النقدية غير المغطاة بالبضائع، وتخفض من سعر الفائدة تحت الصفر، كي تسمح بمزيد من الوقت، لكنها في الوقت نفسه توسع من حجم الانهيار الاقتصادي الحتمي. على أية حال، لم يعد حجم الانهيار مهما، فقد أصبح ذلك الحجم، منذ فترة، كفيلا بتدمير اقتصاد الولايات المتحدة. فالإمبراطوريات عادة ما تسقط عاجلا أو آجلا، وينفرط عقدها وفقا للأسباب الآنف ذكرها، وكل ما تفعله النخب السياسية الأمريكية هي محاولات لتأجيل هذا الانهيار الحتمي، وأتفق مع الإجراءات الحكيمة التي تتخذها هذه النخب في هذا الموقف. فالانهيار الاقتصادي المريع يعني دمارا للدولة، واختفاء للولايات المتحدة الأمريكية كما نعرفها الآن.
نقلا عن روسيا اليوم