فاطمة ناعوت
«شَهد»، طفلةٌ جميلة مثل «الشَّهد». ذكيةٌ متفوقةٌ. بالكاد غادرت حقلَ الطفولة، وتطرقُ على استحياء بابَ الصّبايا. تحلمُ بأن تصبح طبيبةً لتُخفِّفَ أوجاعَ أبناء حارتها الفقراء. فى وقت الواجب المدرسى، تنزعج أمُّها «زهرة» من رداءة خطّ يدها. لكن «شهد» تُبرِّرُ بأن تلك سمةُ العباقرة والأطباء. لكن أمها تُصِّر أن تُحسِّنَ البنتُ خطَّها، حتى تكتملَ دائرةُ الحُسن فى الصَّبيّة الحلوة، وإلا لماذا سمتها «شهد»؟! وتلاطفُ البنتُ أمَّها بأنها حين تكبرُ ستنجب طفلةً تُسمِّيها «زهرة» على اسم أمِّها الغالية. لكن «شهد» لن تكبرَ لتنجب «زهرة»، ولن تجد الوقت لتحسِّنَ خطَّ يدها، ولن تسمح لها الحياةُ بفضّ ضفيرة المدرسة لتطرقَ باب الجامعة وتغدو طبيبةً. الطفلةُ ستظلُّ إلى الأبد طفلةً، لا تبرحُ طفولتَها بل ترافقها إلى القبر، الذى اختطفها من عرائسها وأقلامِها وكرّاساتها. انتزعها الجهلُ من حضن أمّها. وقصفَ عمرَها البطشُ الذكورى الذى يربطُ بين «عِفّة» الفتاة ببتر الجسد بالختان!
تمَّت الجريمةُ بترتيب الأب والجدّة البسيطة التى ترى أن «كمال» المرأة فى زواجها المبكّر، وليس فى تعليمها وبناء عقلِها، وامتلاك ناصية قرارها. تمّت الجريمة بعيدًا عن عيون «زهرة» الأم المثقفة، رغم تعليمها البسيط، التى كانت ترجو لبناتِها العلمَ الذى لم تتمكن هى من تحقيقه لنفسها.
ألقت بنا الدراما فى جحيم الوجع على زهرةٍ صغيرة قُطفتْ قبل أوانها، وعلى «زهرة» كبيرة انتُزِعت زهرتُها الشَّهدُ من بين أصابعها عُنوةً فى لحظة جهلٍ وشراسة، ليتلطَّخ الجسدُ النحيلُ بنزيف دماء رافقاها حتى القبر. ويبدأُ الصراعُ الشرسُ «بين بحرين». بحر الظلام والجهل والموت، وبحر النور والتحضُّر والحياة. فيلمٌ جميل أنتجه «المجلس القومى للمرأة»، بالاشتراك مع «هيئة الأمم المتحدة للمرأة»، مع سفارة اليابان بالقاهرة. كتبته الجميلة «مريم نعوم»، وأخرجه «أنس طلبة»، وجسّدت شخصياته مجموعةٌ من الشباب النجوم: فاطمة عادل، محمود فارس، يارا جبران، ثراء جبيل، عارفة عبدالرسول، لبنى ونس، وغيرهم. وحصد الفيلمُ عديدَ الجوائز من مهرجان «تازة» بالمغرب، ومهرجان «بروكلين»، ونقابة المهن السينمائية، بالإضافة إلى جائزة «نوت» لأفضل فيلم يناقش قضايا المرأة فى مهرجان أسوان الدولى لأفلام المرأة، حيث عُرض لأول مرة.
بدعوة طيبة من د. مايا مرسى، رئيس المجلس القومى للمرأة، ذهبنا أمس الأول لمشاهدة الفيلم فى العرض الخاص. ولم تكن مأساة «شهد» و«زهرة» هى الأخيرة فى تلك الدراما الثرية. بل قدّم الفيلم بانوراما حيّة لنماذج متباينة للمرأة المكسورة بنصل التنمّر الذكورى فى المجتمعات العشوائية. ولم يغفل الفيلم تقديم نموذج المرأة «الأمل»، التى حاربت الجهلَ بالعلم. طبيبةٌ مثقفة ترفض إجراء عمليات الختان للطفلات، وتدفع مقابل رفضها تعرضها لعنف أبناء حارتها. أكملت الرحلة التى لم تقطعها المغدورة «شهد». فتخرجت فى كلية الطب وناقشت الماجستير والدكتوراه، وأقنعت حبيبَها الضابط بحتمية إكمال رسالتها. وكان داعمُها وصخرة قوتها والدها المثقف البسيط الذى آمن بأن «عفاف» ابنته فى عقلها، على عكس والد شهد، الذى قتلها دون قصد، ثم قضى بقية عمره يبكيها. ثم نجد نموذج «سُميّة» ضحية زوجها الفظّ الذى يضربها ويُهينها، لكنها فى الأخير تتخلّص من ضعفها وتتعلم حِرفة ترتزق منها وتنجو من الزوج الشرس. ثم نُكمل قوس الدراما مع الثكلى «زهرة» التى سخَّرت أحزانَها على ابنتها المغدورة فى استكمال رسالتها وحماية ابنتها الأخرى من نصال التومرجى الجهول الذى قصف عمر ابنتها، ليقضى بقية حياته وراء القضبان. وفى خلفية الأحداث نجد «إمام المسجد» العجوز الجاهل الذى يُسىء تفسير آيات الله لتتفق مع أهوائه الذكورية الباطشة. ثم يحلُّ محلَّه داعيةٌ شابٌّ مثقف بتعيين من وزارة الأوقاف، لتبدأ رحلةُ التنوير حين يبدأ أولى خُطبه فى صلاة الجمعة بدعوة الناس إلى تنفيذ أول أمر كتابى أمرنا به اللهُ فى قرآنه المجيد: «اقرأ».
هنا يضعُنا الفيلم أمام رسالة «التنوير» التى ترجو مصرُ ورئيسُها أن تغدو نهجًا منيرًا لمصرنا الجديدة وشعبها. إعادةُ بناء العقل المصرى وتخليصه من أدران الظلام التى تقصفُ أعمارَ الزهور، وتسحقُ المرأةَ، وتقوِّض المجتمع، وتُبيدُ الحضارة. رسالة الفيلم حاسمة: «عفافُ» المرأة يبدأ وينتهى عند «عفاف» عقلِها وبناء منظومة ثقافتها. العقلُ هو الذى يحمى الجسدَ من الزلل. العقلُ النظيفُ هو الضامنُ الأوحد لنظافة الجسد، ونظافة المجتمع بأسره.
بناءُ عقل الطفلة المصرية، والفتاة، والشابّة، والمرأة، هو أقصرُ السُّبل وأقواها لبناء مصر الجديدة التى نحلمُ بها. تحية احترام لصُنّاع هذا الفيلم الثرى، وللمجلس القومى للمرأة الذى يجتهد للحفاظ على كرامة المرأة المصرية وتثقيفها وبناء عقلها على القيم الرفيعة، ومحاربة كل العادات الظلامية التى تُهين جسدها وتُظلم عقلها وتكسر روحها. ودائمًا «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم