فى عام 1543 أصدر العالم الفلكى البولندى نقولا كوبرنيكس كتابه المعنون «دوران الأفلاك» والذى جاءته نسخة منه وهو على فراش الموت مع أنه كان قد فرغ من تأليفه عام 1530.
والسؤال إذن:
لماذا التأخير ثلاثة عشر عامًا؟
كانت السلطة الدينية تعتقد أن الأرض مركز الكون، وأنها ثابتة لا تتحرك. وكان هذا الاعتقاد مردودًا إلى أرسطو. فقد تصور النظام الكونى على أساس أن الأرض هى أثقل العناصر الأربعة وموطنها القاع. وحيث إنها فى القاع فليس ثمة مبرر لتحركها حركة دورانية أو أية حركة أخرى، بينما النجوم والكواكب لم تستقر مكانًا، إذ هى دائمًا فى حركات سنوية حول الأرض الساكنة. أما بطليموس فقد افترض أن لكل كوكب مدارًا دائريًا يقال له «فلك التدوير» مركزه يتحرك على الفلك الدائر، وبذلك تتركب حركة الكوكب الفعلية من حركتين دائريتين منتظمتين، حركة الفلك الدائر وحركة تدور على محيط دائرة مركزها بعيد عن الأرض. ومدة الدورة فى كل من الدائرتين مختلفة. وخلاصة النظرية أن الأرض هى مركز الكون ثم يليها فلك القمر، وكل الأفلاك تدور حول الأرض دورانًا منتظمًا. ثم صدر كتاب بعنوان «الجهل العلمى» لنيقولا دى كوسا برهن فيه على أن الأرض لها حركة دورانية. ثم افترض فى مستوى خط الاستواء وجود قطبين تدور حولهما الأرض كل أربع وعشرين ساعة، الأمر الذى أثار الشك فى نظرية بطليموس، ومهد الطريق لكوبرنيكس.
والسؤال إذن: ما العلاقة بين كوبرنيكس والتأسيس العلمى للعلمانية؟
تقرر نظرية كوبرنيكس أن الأرض لم تعد مركزًا للكون، وبالتالى لم يعد الإنسان، الذى يحيا على الأرض، مركزًا للكون. وإذا لم يعد الإنسان مركزًا للكون فليس من حقه توهم امتلاك الحقيقة المطلقة. وعدم ملكية الحقيقة المطلقة تعنى أن تفكير الإنسان محكوم بالنسبى وليس بالمطلق. وبالتالى ليس فى إمكان السلطة الدينية توهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وأظن أن هذا هو السبب فى قرار محكمة التفتيش بتحريم كتاب كوبرنيكس ما لم يصحح. ثم جاء جاليليو وأعلن انحيازه لنظرية كوبرنيكس. وفى عام 1632 ذاع كتابه المشهور «حوار حول أهم نسقين فى العالم» الذى يدحض فيه نسق بطليموس ويدعو إلى نسق كوبرنيكس فصودر الكتاب، واستدعى إلى روما للمثول أمام محكمة التفتيش لمحاكمته، فأنكر، وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقع بإمضائه على صيغة الإنكار والقسم، ويروى أنه بعد التوقيع ضرب الأرض برجله وقال «ومع ذلك فهى تدور».
بيد أن هذا الفكر العلمانى الذى فجره كوبرنيكس لم يقف عند حد الثورة العلمية بل تجاوزه إلى الثورة الدينية التى سميت بـ «الإصلاح الدينى» الذى يعنى الفحص الحر للإنجيل، أى تأويل النص الدينى من غير معونة من سلطة دينية. ولوثر هو رائد هذا الإصلاح. يقول: «يرغب الرومانيون فى أن يكونوا هم وحدهم المتحكمين فى الكتاب المقدس مع أنهم لم يتعلموا شيئًا من الإنجيل فى حياتهم العامرة. وهم يفترضون أنهم وحدهم أصحاب السلطان، ويتلاعبون أمامنا بالألفاظ فى غير خجل أو وجل، فى محاولة لإقناعنا بأن البابا معصوم من الخطأ فى أمور الإيمان. فالتأويل من حق أى إنسان. ومن ثم فالدوجماطيقية ممتنعة ومع امتناعها لا يحق لأحد أن يتهم الآخر بالكفر.
نقلا عن المصرى اليوم