مدحت بشاي
كثيرًا ما أتذكر، ويطوف بخيالى أحداث الفيلم الأمريكى الشهير «عالم مجنون مجنون» وهو فيلم ملحمى كوميدى أمريكى صدر عام 1963 ومن إنتاج وإخراج «ستانلى كريمر» ويدور حول سباق جنونى للفوز بمبلغ مسروق قدره 350.000 دولار من قبل مجموعة متنوعة من الغرباء. قدم العرض الأول فى 7 نوفمبر 1963، وقد نجح الفيلم بين النقاد وشباك التذاكر فى عام 1963 وفاز بجائزة أوسكار وترشح لخمس جوائز أوسكار إضافية وجائزتى جولدن جلوب. وقام معهد الفيلم الأمريكى بتكريم الفيلم فى عدة مرات، أهمها عندما وضعه ضمن أعظم الأفلام الكوميدية الأمريكية على الإطلاق.
تذكرت الفيلم لأول مرة عندما سألنى الأستاذ والمعلم الممثل المبدع الكبير «محمود مرسى» رئيس لجنة اختبار التقدم للالتحاق بمعهد السينما فى تلك الفترة، حول آخر فيلم رأيته ونال إعجابى وليه؟، وضحكته العبقرية المشجعة لإعجابى بالمفارقات الكوميدية فى الفيلم، ومشاهد الإثارة الجنونية بتمكن حرفى وتقنى مذهل، والمرة الثانية تذكرت أحداث الفيلم وأنا أتابع حصاد نظريات أهل الفكر والتنظير العلمى حول حالة الجنون التى يعيشها العالم الآن، والتى تقترب من دراما روايات ومسرح العبث بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان على حالة اللهاث المجنون والصراع المحموم والمفارقات العبثية التى بدا عليها نجوم «عالم مجنون مجنون» عندما كانوا يشخصون أحوال الدنيا فى الستينات من القرن الماضى!!.
لقد بتنا ــ على سبيل المثال ــ نعيش أغرب وأعجب أمثلة التضاد، فلم تعد الأجيال اللاحقة فقط هى التى تتعلم من السابقة، فالأجيال اللاحقة باتت تعلم السابقة، بعد أن صارت معارف الأولين متهالكة متهافتة وتراجعت قيمتها وتأثيرها الثقافى والمعرفى، وفى هذا الصدد يؤكد «ميشيل فوكو» أن الماضى لا يؤدى إلى الحاضر، والحاضر هو الذى يهب الماضى معناه وجدواه. لقد اختلطت الأضداد وتداخلت فى أيامنا حتى أعلن «جان بودليار» فكرة «نهاية الأضداد»، نهاية تضاد الجميل والقبيح فى الفن، واليسار واليمين فى السياسة، والصادق والزائف فى الإعلام، والموضوعى والذاتى فى العلم، بل نهاية تضاد «هنا وهناك» أيضا بعد أن كاد «طابع المكان» أن ينقرض وقد سلبته عمارة الحداثة خصوصيته وتميزه. إنها بالقطع، وبكل المقاييس، ثورة مجتمعية عارمة.. نحن نواجه عالما زاخرا بالمتناقضات عبر اقتحام فضاءات عوالم افتراصية تزيد من طرح علامات الاستفهام والصراع حول الجديد اللا معقول معرفيًا وإنسانيًا.
لقد تم جذب إنسان هذا العصر الشديد التعقيد إلى دوائره الصعبة حتى بات يعانى من تداعيات محاولات فك شفراته، فعلى الرغم من كل ما يفاخر به أهل زماننا الحاشد بالمعارف ووفرة المعلومات، وآلاف البرامج الإلكترونية المذهلة لتيسير سبل الحياة عبر تطبيقات رائعة، برغم كل هذا، مازال إنسان العصر يسلم ذاته لعبث الأيدى الخفية التى تحرك اقتصاده وعولمته، ومعظم نظمه الاجتماعية، وأمور بيئته وأوضاع جماعاته. وصدق من قال: كم نحن جوعى للحكمة والمعرفة، ونحن غرقى فى بحور المعلومات والبيانات!.
وعليه، ألا يبدو أمر الإعلام المحلى والعربى غريبًا، بعد أن بات لدى متخذ القرار التصور التقليدى الثابت بالاكتفاء بإنشاء المزيد من القنوات التليفزيونية والمؤسسات الصحفية، وإطلاق الأقمار الصناعية، بينما نعيش حالة تراجع فى القدرة على إنتاج رسالة إعلامية مبتكرة ونافذة مؤثرة وقادرة على التغيير؟.
لقد بتنا ـ إلى حد ما ــ بمثابة عالة على وكالات الأنباء العالمية، وإلى حد صار أمل بعض كُتابنا وصحفنا النشر مدفوع الأجر فى الصحف العالمية الكبرى، بالإضافة لاستيراد البرامج التليفزيونية واستنساخ وتعريب بعضها لملء ساعات الإرسال لدينا!!.
نقلا عن المصرى اليوم