بقلم : احمد صبح


سألني بعض الأصدقاء : ماذا تقصد بقولك لايوجد في المملكة السعودية مسيحي واحد ؟! والحق أنني أقول ذلك دائماً ، لأن مصر لها طبيعة خاصة تختلف عن غيرها ، فمصر القطر الوحيد الذي ذكره الله في القرآن أكثر من مرة ، بل يحتفل التراث الإسلامي والقبطي بأن مصر هي جنة الله في الأرض ، ولأن (المصر( هو البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا ، ولما سأل اليهود موسى عليه السلام " ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ... " قال لهم " اهبطوا مصراً فإن لكم ماسألتم ... " ، لذلك فإن أمور الدنيا التي طلبتموها أيها اليهود لن تجدوها إلا في مصر ، ولأن مادونها من الأمصار لايكون فيها إلا بعضها ، فمصر البلد الوحيد في العالم الذي توجد فيه كفاية الطالب وإجابة السائل ، بل هو البلد الآمن كله " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " .

لذلك فإن شعب مصر الذي يتسم بخصوصية السماحة ، والاندماج والتجانس ، لايمكن أن نستورد له فتاوى من خارج الحدود ، ذلك أن القرآن وإن نزل في الجزيرة إلا أنه قريء في مصر ، وهل يوجد في العالم أمثال المشايخ محمد رفعت ، مصطفي إسماعيل ، المنشاوي ، عبد الباسط عبد الصمد .... وغيرهم ؟ ، والعلم وإن كان في الجزيرة حيث كان تجمُّع الصحابة رضوان الله عليهم ، إلا أن كعبته في مصر حيث الأزهر في وسطيته ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن السعودية الإسلام فيها بنسبة 100% ولايوجد بها مسيحي سعودي واحد ، فما بالنا نستورد من مشايخ السعودية بعض الفتاوى الخاصة بالمسيحيين في مصر ؟! وإذا كان الشيخ ابن عثيمين يذكر في فتواه عدم جواز تحية المسيحيين بأعيادهم ، فأرى أنه قد جانَبَه الصواب تماماً لأمرين :

1. ماذكرناه آنفاً بأنه لايوجد مسيحي سعودي واحد في المملكة السعودية ، وبالتالي فالفتوى تخالف الواقع ، وتنطبق في فراغ ، والفقه الإسلامي فقه واقع .
2. أن السعودية مليئة بالمسيحيين الأجانب ، وخاصة الذين تم الاستعانة بهم في حرب الخليج ، وأباح مشايخ السعودية ذلك ! ومع ذلك لا نجدهم يتعرضون بالفتاوى الخاصة بهم ، بل المقصود إذن غيرهم ، الأمر الذي ألحق الضرر بلحمة النسيج الاجتماعي المصري ، حيث أن بعض التابعين لعلماء السعودية يقومون باستيراد هذه الفتاوى لتطبيقها في مصر ، وغيرها من بلاد الإسلام .
لذلك فأنا أسأل مشايخ السعودية وتابعيهم : أين كان العلماء السعوديون عندما احتفل وزير خارجية المملكة "سعود الفيصل " بعيد ميلاد وزيرة الخارجية الأمريكية " كونداليزا رايس " في الرياض عام 2005.م ، وذلك باصطناع تورتة ضخمة مكتوب عليها " عيد ميلاد سعيد يا كوندي ؟! ، بل إنني أتعجب من صمت العلماء عن الرقص بالسيوف مع زعماء الغرب "المسيحي" ، وعن لبس بعض الملوك للصليب ، أو عن دعوة الملوك إلى حوار الأديان – علماً بأنني أرحب بذلك - ؟ ثم بعد ذلك تصدرون فتاوى يتم إشعال الفتنة بها داخل مصر ؟!

أرى أن العيب ليس في هذه الفتاوى ، بقدر ما أرى العيب في الذين يستوردونها لنا ! فإن علماء السعودية هم وشأنهم ، ففتاواهم خاصة بهم ، لا تتجاوزهم خاصة التي تخصنا – نحن المصريين – والذين عشنا قروناً مع إخواننا في الوطن ، لانجد شذوذاً في التعامل ، بل نجد تجانساً تاماً في مصرنا المحروسة ، لذلك فأنا أقصد بكلماتي " ليس في السعودية مسيحي واحد يحمل الجنسية السعودية " أى أن فتاوى علماء المملكة الخاصة بالمسيحيين تطبق في فراغ والإسلام دين الواقع ، ولمـّا نقرأ في فقه الإسلام ، أجد أن هذه الفتاوى تتحدث عن إسلام غير الذي نعرفه ، فهذا الإمام الليث -- وقيل عنه أنه أفقه من الإمام مالك - رضى الله عنهم جميعاً يقول : " إن بناء الكنائس آية تدل على العمران " ، والشيخ القرضاوي يجيز بناء الكنائس لتتناسب مع التزايد السكاني للمسيحيين " وهذا ما تنهض به الحجة ويؤيده العقل ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

" ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف " ، ومن لم أعرف قد يكون مسيحياً ! ويقف لجنازة يهودي ويقول : أليست نفساً ؟! ، ويسمح لوفد نجران من المسيحيين بإقامة قداسهم في المسجد النبوي الشريف ، وأما حديث " لاتبدؤوهم بالسلام وضيقوا عليهم الطرقات " فهو خاص بيهود بني قريظة عندما أمرهم عليه السلام بقتال بني قريظة في المدينة ، وليس من المعقول أن تبدأ من تحاربه بالسلام أو تتسامح معه في الطريق أو غيره ، فهذه حالة حرب خاصة ! وإذا كان الإسلام يجيز الزواج بالكتابية ، فكيف تتزوجها ولاتحبها ؟ وكيف لايحب أولادك منها أخوالهم ؟ إذن فالفقه المستورد لنا من خارج الحدود ليس هو الفقه الإسلامي الصحيح ، وكلنا يخطيء ويصيب ، كما أن لنا – نحن المصرييين – طبيعة خاصة ، فالبيت المصري متماسك وترك التراث الفرعوني والقبطي والإسلامي أثره فيه ، لذلك فلاعجب أن تجد في بيوتنا – نحن المسلمين من المصريين – أسماء حسن وحسين وعمرو وأبا بكر وعلياً وهنداً وفاطمة في بيت واحد ، فقد ذابت المذاهب واقعاً ، فأرجو أن تذوب إعلامياً وسياسياً ، لأنه لادين للفتنة ولا أخلاق ، لذلك كان لتعدد المذاهب واختلاف الفرق أثر سيء خطير على الإسلام والمسلمين ، فالإسلام الموسوم بالسماحة الداعي إلى السلام قد تخضبت دماء أبنائه بدماء بعض ؛ نتيجة للخلافات المذهبية وضيق الأفق الذي حل بهؤلاء المتعصبين لمذاهبهم ، وانتهى الأمر في كثير من الأحيان – ولفترات طويلة من الزمان – إلى القتال الدامي الذي ترك رواسب كثيرة في نفوس المسلمين من أبناء الطوائف المختلفة ، وهذه الدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت كانت بسبب التعصب وضيق الأفق ، والإسلام من كل ذلك براء ، ومع عجلة الزمان أخذ الخطر في الانتشار ، وأخذ الصراع بين المذاهب – خاصة بين السنة والشيعة - يحتل مكاناً ظاهراً في حياة المسلمين ، والغلبة دائماً لصاحب السلطان القوي من الطرفين ، ومن الغريب أن الأمر لم يكن مقصوراً فقط على معسكري السنة والشيعة بل كثيراً ما وقع الخلاف بين أحزاب السنة أنفسهم ، ألم نجد فتاوى في الفقه السني تمنع زواج الحنفي من الشافعية ، قياساً على عدم زواج الكتابي من المسلمة ؟! ألم نجد في المسجد الأموي أربعة محاريب خاصة بالمذاهب السنية الأربعة ، حيث لاتجوز الصلاة خلف المخالف للمذهب ؟!
وإذا ماتتبعنا المصادمات والخلافات التي وقعت بين السنة والشيعة ، سواء أكان المعتدون هؤلاء أم أولئك ، فإننا سنجد صفحات دامية ، لوثت أفق الحياة الإسلامية لبضعة قرون من الزمان ، فرجل فاضل مثل "أبي عبد الرحمن النساني" وقد تم اتهامه بالتشيع ، يُسأل في دمشق عن معاوية وفضائله ، فيرد رداً به مساس بالخليفة الأموي ، فإذا بالناس يدفعونه ويخرجونه من المسجد ويدوسونه حتي يموت بسبب ذلك !
وينشب خلاف في يوم عاشوراء سنة 350.هـ بين الجنود السنة من أتراك وسودانيين من جانب ، والشيعة من جانب آخر ، ويسير الجنود في الشوارع يسألون من يجدونه في الطريق : من خالك ؟ فإذا لم يقل معاوية يلقي من الضرب والإيذاء ما لاطاقة له به ، وتقع فتن دامية أعوام 408 ، 444 ، 445 ، 449 هجرية ويجري قتال رهيب بين كل من السنة والشيعة وتسيل الدماء – دماء المسلمين – من الطرفين أنهاراً وتخرج نساء الشيعة ناشرات شعورهن حزناًَ على من ماتوا من أزواجهن ويلهبن عواطف العامة فيشتد الأمر ، وتشتعل الحرائق إلى أن تأتي على الأخضر واليابس لغير ماسبب إلا أن فريقاً من المسلمين يخالف فريقاً آخر في الرأى " راجع ابن الأثير – أحداث السنوات المشار إليها "
ولم يقف الأمر في الخلاف الدامي بين المسلمين على السنة والشيعة وحدهم ، بل جرى بين المعتزلة والسنة أيضاً ، ولعلنا نذكر فتنة خلق القرآن ، فقد أوقع المعتزلة بمساعدة بعض الخلفاء العباسيين - كالمأمون والمعتصم - الأذى والضرر والقتل ببعض أهل السنة ممن رفضوا القول بخلق القرآن ، وفي الفترات التي غلب فيها الشيعة وكان لهم السلطان ألحقوا الأذى والقتل بأهل السنة ، فهذا قاضي سني اسمه أبو سعيد كان في القيروان ، فاستدعاه داعي الدعاة الفاطمي وطلب منه أن يعتنق المذهب الشيعي فرفض القاضي قائلاً : " لو نشرتني إلى اثنين مافارقت مذهب مالك" ، فأمر به داعي الدعاة فقطع لسانه ... " من كتاب حسن إبراهيم حسن " الفاطميون " ص.333
وكان البويهيون لتعصبهم للتشيع يكرهون أهل السنة وكثيراً ما أوقع معز الدولة البويهي الأذى من قتل أو سمل للأعين لبعض المسلمين لا لشيء إلا أنهم سنيون !!

أيها المسلمون أفيقوا فإن أيادي خفية كانت حريصة على إذكاء نار الفتنة بين المسلمين حتى بين أبناء الطائفة الواحدة ، وقد جرت مصادمات بين أهل السنة بعضهم وبعض ولقد كان للحنابلة يد طولى في الاعتداء على المخالفين ، واشتهروا بالعنف في معاملة الخصوم من أبناء المذهب الشافعي ، فقد ألحقوا بهم الاعتداء ، وبنوا مسجداً في بغداد جعلوا منه وكراً للمشاغبة ، واستعانوا بفريق من العميان مسلحين بالهراوات كان يطلقونهم على الشوافع فيوسعونهم ضرباً حتى يشرفوا على الموت " ابن الأثير الجزء 8 ص.229 "
وبلغ الأمر بالحنابلة وعنف خصومتهم أن منعوا دفن ابن جرير الطبري ، فاضطر أصحابه أن يدفنوه في داره ليلاً ، وقد استعانوا بالعامة في ذلك ، لا لشيء إلا أن الطبري لم يعترف بالإمام أحمد بن حنبل كفقيه واعتبره محدثاً ليس غير ، وكان ابن جرير قد أسس مذهباً خاصاً ، وكان صاحب علم وفضل " ابن الأثير الحزء 8 ص.98 "

أنا أذكر ماسبق من مآسي ، حتي نفيق من غفلتنا ، ونعلم أن الزمان يتقدم بنا ، وأن علاقة اللاحق بالسابق أشبه بعلاقة المرآة بما تعكسه من غير أن يكون لها دور فاعل حقيقي في صنعه أو تكوينه ، فمستقبل الأمة التي يسيطر عليها تقديس الماضي هو وراءها وليس أمامها ، فيجب ألا ننظر إلى كل حركة ماضوية على أنها حركة في المستقبل ، فالإمام الشافعي – أيها السادة – غيّر مذهبه من العراق إلى مصر ، لأن مايتناسب مع أهل العراق لايتناسب مع أهل مصر ، وهذا في زمن واحد وبإمام واحد ، فما بالنا ونحن أبناء القرن الواحد والعشرين !
إن النزعة الماضوية هي زمن استرجاعي لايفارق أصله إلا بالانحدار عنه بما يجعله في حنين دائم إليه ، فالمفهوم الأصلي يتصل بالإنسان الذي يسقط عليه مفهوم الزمن صفاته الغالبة فيدنيه منه في حال من الاتحاد يوقعه في الانحدار ويخصه بالجبر ، فالانسان يتجسد به الزمن في مداره المغلق بل هو الوجه الآخر للزمن ، يظل مثله لايملك إلا المضي في طريق الانحدار ، أيها المسلمون نحن لانريد مجتمعاً يمشي للأمام وعيناه في قفاه ، ولايرى إلا ماهو خلفه ، ولايفعل إلا ماسبق فعله ، فلايفكر ولايبدع إلا في الدوائر التي تجعله مقلداً للآخرين السابقين .

لقد سعدت جداً لمـّارأيت الشيخ محمد حسان - وهو له من العلم والفضل ماله – يستقبل البابا شنودة بكل ود وترحاب ، أليس ذلك ماكنت أنادي به وأقول أن هذا هو صحيح الإسلام ؟ وكذلك يفعل مرشد "الإخوان المسلمون" الدكتورمحمد بديع ، أنا لاأريد أن أتحدث عن ماضي ذقت منه الويلات على يد أتباع الشيخ محمد حسان من المتعصبين ، وأذكر وهم يهدرون دمي ، ويكفرونني لمجرد الجلوس والحديث مع الأقباط ، وكنت على ثقة أن من آمن بقوانين اللعبة سوف يؤمن بها كقيمة ، والحمد لله أجد أن السلفية اليوم يتعلمون أكثر من ذي قبل فيدخلون الأحزاب ، ويؤمنون بالشعب مصدر السلطات عن طريق صناديق الاقتراع ، ويتحدثون عن التزامات مصر مع اسرائيل بالإيجاب ، وسوف يندمجون في المجتمع ، لأن مصر تؤثر ولاتتأثر ، وهاهم اليوم يتحالفون مع الليبراليين في مجلس الشعب ، وكنت أذكر دائماً أن مايقوله البعض من السلفية وخلطهم للدين بالسياسة هو زوبعة في فنجان أو سحابة صيف ، وارجعوا إلى مقالي الأسبق على نفس الموقع " لاداعي للخوف " ، وأنا أناشد الجميع - مسلمين وأقباط - أن يدَعوا الماضي المضطرب ونأخذ بأيدي بعضنا للمستقبل المشرق ، فلحمتنا واحدة ونسيجنا واحد ، وسوف نرى ماتقر به أعيننا إن شاء الله بين المسلمين والأقباط ، بل وسنرى الخير بين المسلمين أنفسهم على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ، وانطلاقة الوحدة ستأتي من مصر إن شاء الله ، أنا على يقين ، فليتأكد المطمئن ويطمئن المتردد ؟ مادام في مصر أزهرها العظيم الذي يقف إمامه معلناً وثيقة الحريات وبجواره الشيخ محمد حسان السلفي !!