لا يحتاج الأعرابى البدوى الراكن إلى الغزو في رزقه ومعاشه، إلا إشارة بسيطة مغلفة بغلاف شرعى موضوع أو مدسوس، يتقدم بها خطوات عمن تركهم إلى دينه الجديد، وهو لن يعمل عقله طالما اتفقت مع طبيعته وثقافته ورزقه قبل الإسلام، فمرحبًا بالوافد الجديد، رزقه وفير في الدنيا ومصيره وثير في الآخرة. ويا للعحب فقد جاء الإسلام يناهض رذائل الجاهلية وسوءاتها، وكان الاعتداء والظلم أكثرهما سوءا، فمن لنا بهذا السبيل؟.
ثم ماذا لو كانت الدعوة بعد انتقالها إلى المدينة، تسير على نهجها التي كانت تسير عليه في مكة، سبيلها آيات الصفح والموادعة والمصالحة كما نزلت عليهم (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي أحسن) والآية (ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) والآية (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم) والآية (لست عليهم بمسيطر) وغيرها من آيات السلام، بدلا من آيات السيف التي نزلت في المدينة، ونسخت آيات الموادعة، كما زعموا، وأصبحت منهجا معتمدا للدعوة (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) حيث جمعت المشركين فقط، ثم الآية (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فزاد على المشركين أصحاب الكتب السماوية، ولم ينج أحد من عباد الله، فماذا كان موقف الأعرابى الغازى هذا من الدعوة إذا استمرت على منهج الرسالة في مكة دون غزو أو سبى أو غنائم؟ أتصور أن كثيرا منهم كانوا سيعيدون النظر في الأمر، ويترفقون بالناس وأنفسهم يوما بعد يوم، إلا أنهم كانوا مصرين على الدعوة بالسيف، متذمرين لو نقصت أرزاقهم منه، وقد حدث أمر قريب من هذا حين تذمروا من توزيع الغنائم، ورفضوا تعديل طريقتها، ولها حكاية، فقد أقر الرسول حكما» من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه «وهو حق المقاتل المسلم في متاع وسلاح وفرس ومال من قتله من الأعداء في حرب، وقد حدث هذا مع الزبير بن العوام، بارز رجلا وقتله فأعطاه الرسول ما سلبه منه، فلما جاء البراء بن مالك لعمر بن الخطاب رفض أن يعطيه ما سلبه من قاتله من الفرس، وقال «إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أرانى إلا خامسه»، أي يحصل منه على الخمس وفقا لنص الآية، «واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.....»
وقالوا إن عمر وجد ما سلبه البراء مالا كثيرا فخاف أن يستشرى الخبر فيبارز المسلمون من عنده مال كثير وينصرفون عن غيره، ويكون شاغلهم عن الجهاد، وكان الأمر محل ضيق وضجر، ولو عدنا إلى توزيع غنائم معركة حنين لوجدنا هذا الرفض ظاهرا جليا، وكذلك سورة الحشر وأشرنا إليها في المقال السابق، وسبب نزول الآية (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهو قبول أمر الرسول في توزيع الغنائم، على غير ما اعتادوا عليه، وقد سبب لهم ضيقا كبيرا، فجاءهم الأمر الإلهى بقبوله، وهذا الشغف بالغنائم أمر يدعوهم لتطويع النصوص وفقا لمرادهم وأطماعهم، وسحب الحكم الخاص على العام، وما جاء لعلاج ظاهرة طارئة يصبح روشتة ثابتة لعلاج كل الأمراض.
ولو كان القرآن نصا، أي ترجمة وشرح شخصي من الرسول لما بلغ به، صاغه وكتبه من لغته وعلى ثقافته، لقلنا منتج بشرى ونقل آدمى ربما حاد عما بلغ به، إلا أنه منقول من الله، نقله كما جاءه، تصبح قضية الناسخ والمنسوخ مرفوضة وليست مقبولة، لأن الله لا ينسخ أو يلغى حكما إلهيا، ولو نسخه (ألغاه) لجاء بأحسن منه أو مثله، (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وليس القتل أحسن من الموادعة، وليس الإثخان أرقى من العفو، وليس ضرب الرقاب أفضل من الصفح الجميل، بل جاء الناسخ أشد عنفا من المنسوخ، وهو مخالف لما ورد في قرآن الله، ودائما يشاغلنى سؤال: كيف ندعو غير المسلم للإسلام على منهج المحبة والسلام والموادعة فلما يؤمن نقول لها كل ما سمعته عن المحبة والسلام والوفاء منسوخ، هب أن داعيا دعاك إلى الغذاء، وحدثك عن الوليمة وما بها من خيرات الله من طعام وشراب، فلما جلست لتناولها قال لك: كل ما سردناه نسخناه فليس لدينا لك طعام أو شراب، فإذا اعترضت وهممت بالانصراف، قال لك إثبت محلك وإلا قتلناك، هل هناك فرق؟ أبدا، فما دخلنا الإسلام إلا على وعد لا يخلفه، وقسم لو تعلمون عظيم. الأسبوع المقبل.
نقلا عن المصرى اليوم