بقلم : الراهب القمص كاراس المحرقي
خلق الله الإنسان ليكون سيداً، ملكاً يتربّع على عرش الخليقة، فكان ولابد أن يكون هذا الملك حراً، يستعمل عقله في كل أعماله، أقواله، قراراته، اختراعاته.. ولهذا فإنَّ التفكير بالنسبة للإنسان ليس مجرد وسيلة تقوده في أوقات كثيرة إلى السعادة، بل هو حاجة ضرورية لا تكتمل بدونها إنسانية ذلك الموجود البشريّ، الذي يفكّر ليحيا ويتقدّم ويُحِب ويتزوّج ويتسلّط على الخليقة..
أتتذكرون قصة خلق الحيوانات والوحوش والطيور؟ أتعرفون أنَّ آدم هو الذي سمَّاها وليس ملاك أو رئيس ملائكة " وَكَانَ الرَّبُّ الإِلَهُ قَدْ جَبَلَ مِنَ التُّرَابِ كُلَّ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ وَطُيُورِ الْفَضَاءِ وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى بِأَيِّ أَسْمَاءٍ يَدْعُوهَا، فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ أَطْلَقَهُ آدَمُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ حَيٍّ اسْماً لَهُ " (تك19:2).
إنَّها كرامة للإنسان الذي قد خُلق على صورة الله، ليكون سيداً ومفكّراً.. حتى وإن تعثّرت خُطواته وضل الطريق المؤدي إلى خلاصه، فإنَّه لا يمكن أن يتنازل يوماً عن تلك المنحة الإلهيّة، ولهذا فإنَّ كل المحاولات التي سعت إلى سلب فكر البشر قد باءت بالفشل!
نعترف بأنَّ الفكر هو سر عظمة الإنسان، ولهذا كان " باسكال " الفيلسوف الفرنسيّ على صواب عندما قال: " إنني أستطيع أن أتصوّر إنساناً بلا يدين أو رجلين، ولكنني لا أستطيع أن أتصوّر إنساناً بلا فكر، لأنَّه سيكون مجرد صخرة أو جماد! "
ونحن لا نُنكر أنَّ الإنسان جزء محدود من الكون بوصفه جسماً، ولكننا نراه يحاول أن يستوعب أجزاء كثيرة من العالم من خلال عقله، وبينما نجد الحيوان مُلزَماً بالخضوع للطبيعة، نرى الإنسان يتمرّد على قيود الطبيعة، ويسعى إلى تغيير بيئته وجعلها ملائمة باستمرار لحاجاته المتزايدة ورغباته المتجددة، ففي وسع كل منّا أن يُعدّل من تراثه البشريّ، لأننا نملك قدرات عقليّة تجعلنا نتخطى وضعنا باستمرار، ونعلو على عالم الواقع، ونتحرر من قيود كثيرة عن طريق الاختراعات، ومن أين يأتي الاختراعات؟ أليست من فكر حر يبحث بمداومة عن كل ما هو جديد!
حتى وإن كان الإنسان مجرد نقطة صغيرة فوق محيط دائرة الكون، ويكفي لموته أن ينقطع الأُكسيجين عن خلايا المخ بضعة دقائق! إلاَّ أنَّه حامل القيم بأسرها، وهو يستخدم فكره لكشف أسرار الطبيعة وتحقيق مقاصده، ويهدف من وراء سلوكه بلوغ أهداف قد تكون روحيّة أو أخلاقيّة أو اجتماعيّة... حقاً إنّه ينظر حوله فيجد نفسه بإزاء قوة، بل قوات هائلة من المخلوقات الأُخرى، ولكنّه لا يجد صعوبة في أن يتحقق بعقله، أنّه سيد الطبيعة ويستطيع أن يُدمّرها في لحظات!
ولو رجعنا إلى بداية تكوين الجنس البشريّ، لوجدنا أنَّ الإنسان كان يحيا وسط الجماعة أو القبيلة، دون أن يكون له رأي حر أو فكر مستنير، فقد كان خاضعاً للتقاليد السائد، وأوامر رؤساء القبائل الذين سيطروا على الأفراد وتحكَّموا في عقولهم، لكنَّه لم يقف عند هذا النوع من الحياة التي لا مجال فيها لفكره، فانتقل ومعه البشرية إلى عهد التفكير، ولم يعد يرى كل شيء عادياً أو مألوفاً بل أصبح كل شيء موضع بحث، فارتفع من مستوى الحياة البدائية البسيطة ليهبط على سطح الكواكب، ونزل إلى أسفل ليغوص في أعماق البحار ويُخرج ما فيها من ثروات..
والواقع أنَّ الإنسان منذ أن وجد على الأرض، وهو يرفض أن يقف من الكون والناس موقف الغريب كأنَّ لا علاقة بينهما، لأنَّ الكون منذ البداية يبدو له بمثابة مجموعة من الألغاز التي تتطلّب الحل، ولهذا اتَّخذت علاقته بكل ما يحيط به طابع الحوار، أو الجدل، أو سؤال يبحث عن جواب.
والغريب أنَّ الإنسان لا يكتفي بحمل همومه وحده، بل يُضيف إليها هموم الناس أيضاً، وهو بذلك يحمل عبء الماضي والحاضر والمستقبل! وهذا إنَّما يدل على أهمية مركز الإنسان في الكون، ومكانته بين المخلوقات الأُخرى.
وهكذا تقدم الإنسان يوم بعد يوم، وتسلل النقد إلى رأسه، ولم يعد في وسعه التخلي عن نقد كل ما في الحياة وهذا يدفعنا إلى القول بأنَّ التفكير في أوقات كثيرة لا يكون نفياً أو إثباتاً، بل هو تساؤل أو استفهام، ودليلي: إنَّ الطفل ما أن يشرع في التفكير فإنَّه لا يكف عن إثارة السؤال تِلو الآخر! وقد تكون أسئلته من الصعوبة بحيث لا يستطيع أن يجد إجابة عليها من الكبار!!
وليس الأطفال وحدهم هم الذين يتساءلون، وإنَّما البالغين أيضاً قد اقترن تفكيرهم بأداة الاستفهام الكبرى " لماذا؟ "، وهذا يدل على أننا لا نجد لذة في ممارسة نشاطنا العقليّ فقط، بل إننا كثيراً ما نسعد عندما نجد أنفسنا بإزاء مشكلات، هى أشبه بشفرات غامضة تتحدَّانا فنسعى جاهدين إلى فك رموزها!
ولكننا ونحن بصدد الحديث عن الفكر نرى أنَّ تفكير الفيلسوف يختلف عن تفكير الفنان والموسيقار.. كما أنَّ تفكير الإنسان المتديّن يختلف عن تفكير الملحد.. فهل هذا يدل على أنَّ التفكير مهارة عقلية لا يستطيع أن يصل إليها كل إنسان؟ أعتقد هذا ودليلي على ذلك: إنَّ كثيرين قد وصلوا بأفكارهم الخصبة النقيّة إلى أسمى الدرجات الروحية، والمعرفة البشرية، والعلاقات الاجتماعية السويّة.. في حين أنَّ غيرهم دمَّروا أنفسهم وغيرهم، ولو استطاعوا لدمّروا الكون بأفكارهم المدمّرة!
ولأنَّ كل مهارة تستلزم المران والتعلُّم، لِذا يجب على الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة، أن يقرأ ويسأل فبدون جهد لن يصل إلى شيء، ونحن نعرف أنَّ الكسل يقود إلى الفراغ الذي يتسبب في دمار الإنسان.