د. نادر نور الدين محمد
ليس أسوأ فى العالم ممن يستيقظون يوميًا ليبحثوا فى أمر وحيد «بماذا سنهاجم مصر اليوم؟» فقط هجوم وغل وحقد من مجموعة حاقدة فى مثال فريد لأناس يهاجمون بلدهم يوميا دون أن يقدموا مرة واحدة رؤية لحل مشاكلها مثل رؤية لتطوير التعليم أو الاقتصاد أو الصناعة أو الزراعة أو الإصلاح المالى والإدارى والصادرات وغيرها لأن هذا لا يعنيهم لأنهم تخصص أذية فقط بعد أن ملأ الحقد عقولهم وأعمى أبصارهم وبصيرتهم ويظنون أنهم يعيشون لتكدير حياة شعب بأكمله.
وليس هناك مادة أخصب من سد النهضة لتكون مصدرا للهجوم اليومى وكأن الأمر كان سيتغير لو كان نظام الإخوان ما زال قائمًا بعد أن قال لهم السفير الإثيوبى إن «السد سيكتمل شاء من شاء وأبى من أبى»، وبعد أن قامت إثيوبيا بتحويل مجرى النيل الأزرق أثناء زيارة محمد مرسى لها وفى وجوده، أو كأنهم وصلوا إلى حلول نهائية مع إثيوبيا قبل أن يتم خلعهم!!. هناك البعض ممن يعيشون وسطنا يعطون للأعداء هذه الفرصة لأنهم يتحدثون فى أمور فى غير تخصصهم أو حتى لم يقرأوا عنها مسبقًا أو يطلعوا على مراجع محترمة لمنظمات الأمم المتحدة أو يقرأوا بعناية اتفاقياتنا مع دول منابع النيل ابتداء باتفاقيات الكونغو وإثيوبيا وانتهاء باتفاقيات 1929 و1959 ويحفظوا بنود كل اتفاقية.
فقد أساء ممثل إحدى النقابات لمصر إساءة بالغة بالحديث القاتم دون دراية بتداعيات سد النهضة على مصر وادعى ببوار ثلاثة ملايين فدان وتشريد أربعة ملايين مزارع وخصم كميات تساوى بالتقريب مياه النيل الأزرق كاملة ومن حصة مصر فقط دون خصم من السودان، فتلقفت قنوات الأعداء هذا العبث لتعيده وتذيعه عشرات المرات يوميا!. فالحقيقة أن النيل الأزرق القادم من وسط إثيوبيا هو واحد من أربعة روافد تكون نهر النيل مع نهرى عطبرة والسوبات القادمين من شمال وجنوب إثيوبيا ثم النيل الأبيض القادم من الهضبة الاستوائية للبحيرات العظمى. لا يزيد تمثيل النيل الأزرق على 60% من إجمالى مياه نهر النيل، وبذلك فمن العار والجهل معًا للبعض أن يعتقدوا ويدعوا أن النيل الأزرق هو نهر النيل كله. ثانيا أن اتفاقية 1959 الموقعة بين مصر والسودان لتقسيم ما تعودنا أن يصل من مياه النيل إلى مدينة أسوان عبر آلاف السنين وهو ما يسمى قانونا «الحقوق المكتسبة» وليس التاريخية، وكأن الاتفاقية كانت تتوقع ما يحدث الآن بل من قبل اتفاقية عنتيبى بإعادة تخصيص حصص من المياه لدول منابع النيل الأبيض والتى قادتهم إثيوبيا خلفها من أجل الحصول على دعمهم والوقيعة مع مصر بالادعاء بأن مصر تستولى على مياه النيل كاملة دون ناقة لهم أو جمل لأن إثيوبيا مهتمة فقط بما يخرج منها من أنهار ولا يهمها غير مصالحها وغير مهمومة بمصالح دول النيل الأبيض. تنص اتفاقية 1959 فى أحد بنودها صراحة وباللغة العربية على أنه فى حال طلب إحدى أو بعض دول منابع النيل حصصًا من مياه النهر وترتضيها مصر والسودان يتم خصم هذه الحصص مناصفة بين مصر والسودان. أى أن الأمر ليس مرتبطًا بحجم حصة مصر ولا السودان ولكنه ينص صراحة على أن يكون الخصم مناصفة بينما تتناول قنوات الأعداء والجهلاء بأن الحصة سوف تخصم كاملة من مصر فقط لأن هذا ما يتمنونه وليس الحقيقة. وقد تحولت مصر حاليا إلى الاتجاه الصحيح بالحديث عن المياه بدلًا من الحديث عن السد ومواصفاته وأبعاده لأن هذا الأخير لا يعنينا ولكن يعنينا تدفقات المياه بعد السد والتى تعودنا أن تأتى من النيل الأزرق بحجم 50 مليار م3 سنويا من إجمالى 84 مليار م3 لكامل مياه النيل، وإذا كانت إثيوبيا ورئيس وزرائها أعلنوا مرارا بأن مصر لن تتضرر من السد بل ربما تزيد حصتها نتيجة للسحب المتتالى من مياه بحيرة السد وضخها على التوربينات لتوليد المزيد من الكهرباء، وقد حدث هذا فى سدى أوغندا «أوين وكييرا» على بحيرة فيكتوريا وزادت تدفقات النيل الأبيض إلى مصر والسودان. وتستطيع إثيوبيا إذا صبرت وكان لديها حسن النية أن تملأ بحيرة سد النهضة كاملة فى عامين إذا انتظرت إلى السنوات الثمانى للفيضان وهذا أوانها والتى يزيد فيها تدفقات النيل الأزرق لتصل إلى 90 مليار م3 بدلا من 50 مليارا فقط، وهذا ما تطلبه مصر بل إنها طلبت من إثيوبيا ألا تقل تدفقات النيل الأزرق بعد تشغيل السد عن 40 مليار م3 سنويا مضحية بعشرة مليارات خصمًا من متوسط تدفقات النيل الأزرق تخصم مناصفة بين مصر والسودان (ومضحية بحصتنا من مياه الفيضان أيضًا)، وأيضا تنفيذا لقانون الأمم المتحدة للمياه العابرة للحدود والتى تنص على حتمية الحفاظ على كفاءة السدود القائمة على الأنهار والسابقة لإقامة أى سد جديد؛ وبالتالى فعلى إثيوبيا قانونًا أن تعمل على عدم الإضرار بكفاءة عمل وتخزين السد العالى فى مصر وسدود سنار وميروى والروصيرس فى السودان وهذا لا يتأتى إلا بضمان تدفقات للنيل الأزرق لا تقل عن 40 مليار متر مكعب سنويا، وقد نتراضى حتى على 35 مليارا من النيل الأزرق وحده (بالإضافة إلى 22 مليارا من عطبرة والسوباط و13.5 مليار من النيل الأبيض)، وبالتالى فحتى هذا النقص البالغ 15 مليارا سوف يخصم مناصفة من حصتى مصر والسودان بواقع 7.5 مليار فقط من كل دولة، وهذا الأمر لا يؤدى إلى بوار عدة ملايين ولا يشرد ملايين المزارعين كما ادعى النقيب المهنى وأعطى الفرصة لقنوات معادية للتنديد الحاقد بمصر.
أما ادعاء إثيوبيا بأن تحديد حجم تدفقات النيل الأزرق وعمل سد النهضة تدخّل فى السيادة الإثيوبية على مواردها فعليها أن تتذكر أننا لا نتحدث عن نهر إثيوبى خالص ينبع وينتهى داخل إثيوبيا ولكنه نهر عابر للحدود له قوانينه الدولية التى تنظمه، كما أن تطبيق السيادة المطلقة على نهر مشترك لهو بالغ العشوائية لأنه لو كان من حق أى دولة تطبيق السيادة المطلقة على نهر مشترك فلماذا وضعت الأمم المتحدة قانونًا منظمًا لمياه الأنهار العابرة للحدود يحدد العلاقة بين الدول المشتركة فى النهر بل يضع شروطا قوية لإنشاء السدود على الأنهار جاءت فى نحو ثمانية بنود من قانون الأنهار الدولية للأمم المتحدة لعام 1997 والذى جمع النصاب القانونى عام 2007 وأصبح ملزمًا للجميع حتى لو كانت مصر وإثيوبيا لم توقعا عليه.
بالتفاهم وحسن النية وحسن الجوار يمكن لإثيوبيا أن تملأ سدها وأن يعمل وفقا للقوانين الدولية وليس لشرائع الغاب، ويمكن لمصر أن تساعد وتنمى بعيدا عن سياسات فرض الأمر الواقع؛ لأن مصر ليست بالضعيفة، ورجاء من أنصاف المتعلمين وأنصاف الجهلاء اتركوا أمور الأمن القومى بعيدًا عن اجتهاداتكم.
* أستاذ الأراضى والمياه بجامعة القاهرة