ترجمة د. هاني حجاج
"ذلك الوميض الخافت"
"لن أدع دفتر اليوميات أكثر من ذلك، ففيه أسجل ملاحظاتي، وهي ميزة لا أجدها في سواه. أود البوح بشعور النشوة الذي ينتابني من حين إلي آخر مثلما هو حالي الآن. فكم هو رائع حقا أن يملكني ذلك البريق الخافت الممتع والذي يوهمني بقدرات أنا علي يقين تام ودائم باستحالة وجودها."
16 ديسمبر 1910
"تفاهة الكتابة تدرك بعد فوات الأوان"
"لم أكتب كثيرا عني اليوم، لعله الكسل (فكثيرا ما أمُضّي النهار كله في نوم عميق، فضلا عن إحساسي بثقل كبير بعدها)، أو هو الخوف من خداع الذات. ولهذا الخوف ما يبرره. إذ لن تغدو الكتابة معرفة صادقة لقدر النفس إلا بأقصى درجات الكمال والإخلاص الشامل.. ولأن هذا لا يحدث، ولأنني لا أمتلك المقدرة عليه بأي حال من الأحوال¬ فإن الكتابة تتحول إلي وجهة نظر ويجنح الحرص الشديد إلي مشاعر عارمة عارية علي نحو تتلاشي فيه المشاعر الصادقة، في حين أن تفاهة الكتابة تدرك بعد فوات الأوان."
12 يناير 1911
"خوفي لا يجود عليّ إلا بسعادة ناقصة"
"فكرت ذات مرة أن أكتب رواية عن صراع بين أخَّين، رحل أحدهما إلي أمريكا بينما قبع الآخر في سجن أوروبي، كنت أبدأ من حين لآخر في كتابة بضعة سطور قليلة منها ثم سرعان ما يتملّكني الفتور والإنهاك. وحدث في ظهيرة أحد أيام الآحاد حين كنا في زيارة إلي جدينا، وقد اعتدنا أن نلتهم لديهما خبزا شعبياً طرياً من الذي تغطيه بالزبد، حدث أنني دونت شيئا عن سجني، وتمكنت أيضا من خلال طريقة فرد الورق علي مفرش الطاولة والطرق بالقلم الرصاص والنظر أسفل المصباح وخلاله من أن ألفت انتباه الجميع، رغبة مني في حث أي منهم علي انتزاع ما أكتبه عنوة رغماً عني والتدقيق فيه ومدحي. وكان مهما جدا وصف ردهة السجن في بضعة سطور، خاصة سكونها وبرودتها. كما كتبت كلمة تعاطف مع الأخ القابع هناك لأنه الأخ الطيب. وربما اعتدت في السابق أن يتملكني شعور عام بتفاهة وصفي إلا أنني لم أرع اهتماما لتلك المشاعر قبيل هذه الظهيرة، وذلك لأنني بين أقاربي، كنت أخشي ألا يجود عليّ خوفي إلا بسعادة ناقصة. جلست علي طاولة مستديرة في حجرة ألفها، ولم أنس أن سكوني هذا هو من صنع مني رجلا كبيرا رغم صغري. وأخيرا، أحد أعمامي والذي كان يضحك بشدة أخذ تلك الأوراق التي أمسكتها بشيء من الشك، ألقي عليها نظرة قصيرة ثم أعادها إليٌ ثانية وقد زال الضحك من وجهه، وجه كلامه لأولئك الذين كانوا يتبعونه بنظراتهم قائلا (مجرد كلام عادي) بينما لم ينبس ببنت شفة معي. ظللت جالسا مكاني، وانحنيت علي أوراقي الفاسدة مثلما كان الأمر في السابق. إلا أنني قد أقصيت من الصحبة المتواجدة بلطمة، وأخذ رأي عمي يتردد داخلي حاملا معني حقيقيا لا جدال فيه، إذ أن تلك المشاعر الأسرية قد أطلعتني علي خواء بارد لعالمنا يجب أن نمنحه الدفء بالحماسة، وهو الأمر الذي بدأت أهتم به فيما بعد."
19 يناير 1911
"يقرأ الصحيفة لزوجته في المقهى"
"جلست بصحبة بعض المعارف علي طاولة مقهى في مكان مهجور، كنا ننظر إلي امرأة وصلت لتوها وتجلس علي الطاولة المجاورة لنا. كانت تتنفس من تحت وطأة ثدييها الكبيرين بصعوبة وبدا وجهها المائل إلي الحمرة محموما لامعا. أزاحت رأسها إلي الخلف فلاح في ذقنها أثر لحية خفيفة جدا، ثم حولت نظرها لأعلي وكأنها ترقب زوجها الذي يقرأ بجوارها صحيفة مصورة. آه لو يعلم المرء أنه سيقرأ إلي جوار زوجته في المقهى صحيفة وليس مجلة!! بعد لحظات استعادة وعي جسدها السمين فتزحزحت قليلا عن الطاولة."
24 أغسطس 1911
"وكأنها تصرخ في حارة باريسية"
"سوف أكتب ومايزال جبيني يرتعش حيث أجلس في حجرتي، أكثر أجزاء الشقة صخبا وضجيجا علي الإطلاق. أسمع طرقا لا ينقطع علي جميع الأبواب، واستشعر خطي العابرين بينها، كما يصلني صوت موقد الغاز في المطبخ. يقتحم أبي حجرتي مرتديا بيجامة نوم لها ذيل طويل في حين يخربش رماد الموقد في الحجرة المجاورة. عبر حجرة المكتب تتساءل (فالي) بدهشة وكأنها تصرخ في حارة باريسية.. إذا كان أحدهم قد قام بتلميع قبعة أبي!؟ بعدها تعلو نبرة حذرة مبحوحة بالإيجاب. يبدو صوت أكرة باب الشقة كالتهاب في الزور، باب الشقة لا يسكت أبدا، يفتح فتسمع ترنيمة نسائية قصيرة ويغلق فتشعر بهزة ذكورية عميقة. خرج أبي الآن وبدأ ضجيج رقيق شارد، ضجيج بلا أمل يقوده طائرا كناريا عبرا إلي الشقة من شق صغير بالباب. أخوتي وصديقاتهن لا يتوقفن عن الثرثرة."
5 نوفمبر 1911
"ماكس العجيب"
"عنفني أبي ظهرا لأنني لا أولي اهتماما بالمصنع، وقد أوضحت أنه كان بإمكاني المساهمة في ذلك لو أنني أنتظر ربحاً معقولاً، لكنني لا أستطيع.. وحين واصل أبي تعنيفه وقفت في الشباك ملتزما الصمت. في المساء وجدتني أتفكر في حديث الظهيرة وكنت سعيدا جدا بوضعي الحالي، وشعرت أنه من الضروري أن أحرص علي تخصيص وقتي كله للكتابة وحسب. ورغم أنني لم أتعرض لتلك الأفكار من قبل إلا أنها بدت مألوفة، فضلا عن اتفاقها وقدرتي علي تسخير وقتي بأكمله للأدب. وارد أن يكون هذا الاقتناع نابعا من تفكير لحظي لكنه قوي جدا. كذلك فقد اعتدت التفكير في “ماكس” باعتباره شخصا عجيبا رغم ما يحييه من قراءات أدبية وأمسيات موسيقية في برلين. ويستلفت الانتباه أيضا أنني لا أفكر في ماكس إلا عندما أقترب من مسكن الآنسة “تاوسيش” أثناء نزهة المساء".
14 ديسمبر 1911
"فمها الواسع يتحرك"
“للأسف تلعب السيدة (تشيسيك) أدوارا لا تبرز غير طبيعتها الحقيقية، فدائما ما تجسد أدوار النساء والفتيات اللاتي تحولن إلي بائسات ومفضوحات، يصبن بالأمراض ويبخلن علي أنفسهم بالوقت فلا يتطورن علي نحو طبيعي. ويمكن للمرء أن يفطن مسبقا إلي الدور المناسب لـ(تشيسيك) وذلك من خلال الطاقة الطبيعية المتفجرة بداخلها والتي تظهر في كافة أدوارها ولا تصل إلي ذروتها إلا أثناء التمثيل، بينما يكتفي¬ استنادا إلي ثرائها المنشود¬ بالإشارة إليها فقط في النص المسرحي المكتوب (إحدى أهم حركاتها علي الإطلاق يبرزها تبختر عجيزتها المهتزة والتي قد تتصلب أحيانا) وتمتلك ابنتها الصغيرة خاصرة جامدة لأقصي حد.. عندما يتعانق الممثلون فإن كل منهم يتشبث بالشعر المستعار للآخر بعنف!!
حين صعدت مؤخرا بصحبة (لوفي) إلي حجرته ليقرأ عليٌ الرسالة التي كتبها إلي مؤلف من وارسو يدعي (نومبورج)، قابلنا علي العتبة الزوجين (تشيسيك). كانا صاعدين إلي حجرتيهما ومعهما ملابس تنكرية من أجل (كول نيدري)، وقد لف الملابس في ورق ناعم كأنها طبق حلوى. توقفنا برهة من الزمن، واستندت إلي درابزين السلم. كان فمها الواسع يتحرك مقتربا بشدة وقد اتخذ أشكالا مدهشة ولكنها غير مألوفة. وحدث أنني أكسبت الحوار طابعا كئيبا، فرغبتي في الانتهاء بسرعة من عبارات الحب والإطراء دفعتني للتأكيد فقط علي أن الجماهير الغفيرة خرجت من المسرح متكدرة وأن برنامج المسرح منهك للغاية ويعجز معظم الحاضرين عن إكماله وأنه من الأخلق أن تهدأ نبرة النفور من يهود (براغ) بينهم. يجدر بك¬) هكذا قالت لي)¬ أن تحضر يوم الاثنين (ليلة سايدر) رغم أنني شاهدتها من قبل. بعد قليل سمعتها تردد تلك الأغنية (بوري يزرويل) والتي أيقظت داخلي¬ مثلها تماما¬ ذكريات قديمة، وخصوصاً الحب."
7 يناير 1912
"صعد ليستعيد عافيته.. وغرر بالبنت!"
"لقد غرر ببنت من قرية صغيرة تقبع في جبال إيزر كان قد نزل بها صيفا كاملا ليستعيد عافية رئته التي أنهكها الدخان. وبلا مبرر¬ كحال مريض الدرن أحيانا¬ أوقع البنت على الأرض، وهي ابنة صاحب المسكن الذي ينزل فيه وقد اعتادت علي الخروج معه للتنزه في مساء كل يوم بعد العمل، وبعد محاولة إقناع قصيرة في العشب علي ضفة النهر صارت البنت والتي أغشي عليها من الفزع ملك يمينه. بعد قليل أخذ يملأ كفيه بمياه النهر ويفرغها علي وجهها لعلها تعود للحياة مرة أخري. ناداها “بوشين، بوشين” ثم انحني عليها مرات لا حصر لها. كان على أتم الاستعداد لتحمل مسئولية هتك عرض البنت، واجتهد بشدة لكي تسترد وعيها.. كان مخلصا وجادا للغاية.. لكن وبلا تفكير تمني لو أنه لم يعرفها مطلقا. أما البنت الراقدة أمامه والتي وإن عاودت التنفس بانتظام لكنها ظلت مغمضة العينين خوفا وخجلا، فلم تستطع أن تساعده في شيء. ولأنه رجل كبير قوي أزاحها عن طريقه بطرف حذائه. كانت البنت ضعيفة ورقيقة هشة، فهل احتفظ ما حدث لها بأي معني مؤثر حتى الصباح؟ ألم يكن من الأجدر به وبها ألا يسيء إليها مرتين؟.. انطلق النهر بين المروج والحقول حتى شق الجبال البعيدة، وما تزال الشمس المشرقة في المنحدر على الضفة الأخرى، بينما تستعد آخر السحب للانسحاب خلف سماء المساء الصافية.
لا شيء، لا شيء، إنني واهم علي هذا النحو كنت ضعيفا لأقصي حد، خاصة في موضع “فيما بعد....” وبالذات في “يفرغها” أما في وصف الطبيعة فقد حاولت أن أري شيئا صحيحا. هكذا، الانسحاب من الذات، من كل شيء. ضجيج في الغرفة المجاورة."
10 مارس 1912
"أحاول الاطمئنان على إحساسي بالمسئولية"!!
رسالة إلي روفولت:
“السيد روفولت المحترم!
أقدم لسيادتكم عملا نثريا قصيرا أرجو من سيادتكم النظر في أمره والاعتناء به، فيمكن أن يصبح كتيبا صغيرا. والحق أنني احترت أثناء الإعداد لهذا الغرض بين الانتظار للاطمئنان إلي إحساسي بالمسئولية وبين الرغبة في أن يصبح لي كتاب بين كتبكم الرائعة، وفي الواقع لم أصل إلي رأي صائب للغاية في هذا الشأن، لذا سأغدو سعيدا حتما إذا أعجبكم العمل وقمتم بطباعته، وأخيرا ففي الأعمال التجريبية لا تدرك النواقص من أول نظرة كما أن الفردية المتزايدة للكاتب تستر بطريقتها الخاصة كافة النواقص.
لكم، بإخلاص."
14 أغسطس 1912
"أمتع من السير في شارع باريس"
رأيت فيما يرى النائم: أنني فوق لسان حجري ضيق مربع ممتد إلى بعيد في البحر. غريب بين نفر من البشر، بدوا لا يعرفونني لذا لم أتحدث إليهم. وأتذكر ركبتي ذلك الرجل الذي كان يجلس بجواري.. لم أكن أعرف في بداية الأمر أين أنا؟ فقط حين نهضت رأيت مصادفة من جهة اليسار، وخلفي من جهة اليمين، البحر الواسع الصافي وقد اصطفت فيه سفن حربية كثيرة راسية. ويمينا كانت نيويورك، وكنا في مينائها. السماء رمادية وصافية بنفس الدرجة. استدرت في مكاني بحرية، ناحية اليمين وناحية اليسار، معرضا للهواء من كل اتجاه. وألحظ الآن البحر بجواري يموج عاليا، وحركة مرور هائلة لسفن من دول أخرى. ولا يحضرني الآن غير أننا استخدمنا في الانتقال بالبحر بدلا من قواربنا الصغيرة جذوع شجر ضخمة وطويلة، ربطت بإحكام فكونت حزما دائرية عملاقة أخذت تظهر قليلا أو كثيرة مع مستوي طفوها حسب ارتفاع الموج، وقد راحت تتقلب في الماء طوال الوقت. جلست في إحداها ضاما قدميٌ إلي صدري، وكنت أهتز من فرط المتعة، ثم انبطحت أرضا مسرورا، ورددت: إن هذا لأمتع من السير في شارع باريس."
11 سبتمبر 1912
"روحي تضيق بمصائب وأفراح أقاربنا"
لائحة بالمبررات المؤيدة أو المعارضة لزواجي:
-1¬ عدم القدرة علي تحمل الحياة وحدي.. ليست القدرة علي الحياة في حد ذاتها، بل على العكس من ذلك تماما، فمن غير المحتمل أنني سأتفهم مجرد الحياة مع شخص آخر، ولكن لن أقوى بمفردي علي مواجهة شراسة حياتي الخاصة ومتطلباتي الشخصية وضياع الوقت وفقدان العمر والاحتقان الدائم لمزاج الكتابة والأرق ومشارفتي للجنون، لا لن أحتمل كل هذا وحدي، بالطبع يمكن الإشارة إلي أن الزواج من (ف.) سيمنحني مقدرة أكبر علي الاحتمال.
-2¬ كل شيء يبعث علي التفكير، كل نكتة في جريدة هزلية، ذكرياتي مع فلاوبرت وجريلبارتسير، منظر قمصان النوم علي أسرة والديٌ المعدة للنوم، زواج ماكسين. بالأمس أخبرتني شقيقتي: “كل المتزوجين (بين معارفنا) سعداء، لكني لا أشعر بهذا” هذه العبارة تدعو إلي التأمل أيضا، لقد عاودني الخوف.
-3¬ من الأحرى أن أخلو لنفسي أكثر، فكل الذي أنجزته كان توفيقا للعزلة وللانفراد بالنفس ليس إلا.
-4¬ إنني أبغض كل ما لا يمت بصلة إلي الأدب، لا أحب خوض الأحاديث (حتى وإن كان لها صلة بالأدب) وأمقت الزيارات. كذلك تضيق روحي بمصائب وأفراح أقاربنا. إن الأحاديث تلتهم ما أتدبره، تلتهم الأهمية، تلتهم الجدية، تلتهم الحقيقة.
-5¬ الخوف من الزواج وما يترتب عليه من إنجاب أطفال فلا أغدو بمفردي أبدا.
-6¬ كنت أمام شقيقاتي¬ وكان يحدث ذلك في السابق¬ شخصا مختلفا غير الذي يراه الآخرون. لا يهاب، مكشوف، معروف، مفضوح، مدهش، مندهش، لا يتأثر¬ كعادته¬ إلا أثناء الكتابة، فلو تمكنت من إظهار هذا التأثر لزوجتي أمامهم فهل سأعجز عن حرمان الكتابة منه؟! كله إلا هذا! إلا هذا!
-7¬ بمفردي قد أتخلي عن مسئولياتي، لكن هذا الأمر مستحيل وأنا متزوج."
21 يوليو 1913