في مثل هذا اليوم 31 اكتوبر 2009م..
مصطفى كمال محمود حسين أل محفوظ من مواليد مركز شبين الكوم محافظة المنوفية(27 ديسمبر 1921 - 31 أكتوبر 2009)،. تلقى أولى تعاليمه بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية ثم انتقل إلى مدرسة طنطا الثانوية. بدا حياته التعليمية متفوقا. التحق بكلية الطب جامعة القاهرة ليحصل على بكالوريوس الطب القصر العيني عام 1952. عاش مصطفى محمود في مدينة طنطا إلى جوار مسجد السيد البدوي الذي يعد أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر مما ترك في نفسه أثرا واضحا ظهر في توجهاته وأفكاره ولقد تحدث مصطفى محمود عن تكوينه الفكري وعن طفولته التي هي مفتاح ذلك التكوين قائلا: لا اذكر من طفولتي إلا الأحلام التي كنت أتخيل فيها أنى عالم ومخترع أو رحال أو بطل من إبطال التاريخ كما أذكر حبي للموسيقى وللشعر وفى صباي تعلمت العزف على الناي وفى شبابي درست العزف على العود وكنت أكتب في أيام الدراسة الابتدائية الزجل والشعر وفى الثانوية القصص والمقالات والمسرحيات وهويت العلوم وأنشأت معملا للكيمياء والبيولوجيا في بيتى وكنت أحضر الغازات واشرح الضفادع. نشرت لي أول قصة في مجلة الرسالة عام 1947 ثم بعد ذلك نشرت القصة الثانية في جريدة المصري ثم اشتغلت في أخر ساعة وأخبار اليوم. وفى عام 1952 كنت احد مؤسسي مجلة التحرير وفى عام 1956 اشتغلت بمجلة روزاليوسف. كانت حياتي الأدبية خلال ثلاثين عاما هجرة مستمرة نحو إدراك الحياة والبحث عن الحقيقة وكان كل كتاب محطة على طريق هذا السفر الطويل.
تزامنت كل مجموعة أخرجها مصطفى محمود مع محطة أو مرحلة من مراحله الفكرية وعن ذلك يقول "كانت المجموعة الأولى من الكتب التي صدرت لي فيما بين 1954- 1958 تمثل المرحلة العلمانية وفيها قدمت كتبي "الله والإنسان وإبليس ومجموعة قصص أكل عيش وعنبر 7" وفى هذه القصص حاولت أن أصور المجتمع من منظور واقعي صرف وكان موقفي من المسلمات الدينية هو موقف الشك والمناقشة. وكانت المرحلة التالية هي بداية الشك فقد اتضح لي عجز الفكر العلمي المادي عن أن يقدم تفسيرا مقنعا للحياة والموت والإنسان والتاريخ وفى هذه المرحلة وقفت أمام الموت منكرا ومستنكرا أن يكون الإنسان هو هذه الجثة التي أرها أمامي وهو مجموعة عناصر الكربون والأيدروجين والأكسجين إلى أخر العناصر العشرين التي تتآلف منها طينيا وترابا لا لا يمكن أن يكون الإنسان هو مجرد هذه الأحشاء الملفوفة في قرطاس من الجلد وإنما الحقيقة الإنسانية لابد أن تكون مجتازة لكل هذا القالب المادي المحدود وعلينا أن نبحث عن هذه الحقيقة فيما قبل الميلاد وفيما بعد الموت وفى هذه المرحلة كتبت مؤلفاتي "لغز الموت ولغز الحياة ورواية المستحيل" وتكاد تبوح رواية المستحيل فيما بين سطورها بهذا العطش الصوفي والروح الرومانتيكية. تستمر هذه المرحلة إلى أوائل الستينات وفى 1962 أهاجر هذه المرة بالقدم والجسد في محاولة لاستكشاف الحقيقة في الغابات الاستوائية العذراء ويعقب ذلك رحلة أخرى إلى قلب الصحراء الكبرى فى واحة غدامس وتكون ثمرة هذه الرحلات ثلاث كتب هي "الغابة ومغامرة في الصحراء وحكايات مسافر".
بعد ذلك تأتى المرحلة الرابعة التي أحاول أن أركب فيها سفينة العلم لأهاجر إلى ما وراء العلم في مغامرة لأكتب لونا جديدا من أدب الرواية العلمية فكانت ”العنكبوت والخروج من التابوت ورجل تحت الصفر واينشتين والنسبية“. ثم تواكب هذه المرحلة وتأتى بعدها مرحلة أدبية قدمت فيها معظم أعمالى الدراسية وفيها مسرحية الزلزال ومسرحية الإنسان والظل ومسرحية الاسكندر الأكبر ومجموعة قصص مثل رائحة الدم وشلة الأنس ورواية اجتماعية مثل الأفيون.
فى أخر الستينات ادخل عالم الأديان في مسيرة طويلة نبدا بالفدايات الهندية والبوذية والزرادشتية والنيوصوفية واليوجا ثم اليهودية والمسيحية والإسلام وانتهى إلى شاطئ القرآن الكريم لأجد لكل ما كنت أبحث عنه من مشاكل ازلية وهكذا تأتى مرحلة التحول الكامل إلى الإيمان وتوالى مجموعة كتب الإسلاميات القرآن محاولة لفهم عصري رحلتي من الشك إلى الإيمان "الله" و"محمد" و"الكنيسة" و"التوراة" و"الشيطان يحكم" و"الروح والجسد" وفى هذه المرحلة اتخذت موقفا صريحا مناهضا ومضادا للفكر المركسي والفكر الشيوعي وأقدم: الماركسية والإسلام ولماذا رفضت الماركسية أكذوبة اليسار الإسلامي كما أناقش كل ألوان الغزو الفكري من وجودية إلى عبثية إلى فوضوية إلى مذاهب الرفض والتمرد واللامعقول.
ثم بعد ذلك وفى أواخر السبعينيات تأتى مرحلة الصوفية فأقدم الثلاثية الصوفية "السر الأعظم" و"رأيت الله" و"الوجود والعدم" و"أسرار القرآن" ومجموعات قصص مثل نقطة الغليان وأناشيد الإثم والبراءة ومسرحيات مثل الشيطان يسكن في بيتنا ودراسات في الحب مثل عصر القرود ورواية سياسية مثل المسيح الدجال.
تعرض مصطفى محمود للكثير من الاتهامات بأن أفكاره وآراءه متضاربة إلى حد التناقض إلا أنه لا يرى ذلك ويؤكد أنه ليس في موضع اتهام وإن اعترافه بأنه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدوة على نقد الذات وهذا شيء يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالجحود والغرور.
لقد تعرض مصطفى محمود للعديد من الأزمات الفكرية كان أولها عندما قدم للمحاكمة بسبب كتابه "الله والإنسان" وطلب الرئيس عبد الناصر بنفسه تقديمه للمحاكمة بناء على طلب الأزهر باعتبارها قضية كفر إلا أن المحكمة أكتفت بمصادرة الكتاب. كذلك كانت أكبر أزماته الفكرية هي أزمة كتاب الشفاعة عندما قال إن الشفاعة الحقيقية غير التي يروج لها علماء الحديث وحينها هوجم بشراسة وصدر 14 كتابا للرد على كتاب الشفاعة على رأسها كتاب الدكتور محمد فؤاد شاكر. مما يثير الحزن والأسى إن الدكتور مصطفى لم ينكر الشفاعة أصلا ولكنه رأى إن لها ضوابط وأحكام كما أنه اعتمد على ذلك على أراء علماء كبار أمثال الإمام محمد عبده.
رحل مصطفى محمود صباح السبت 31 أكتوبر 2009 بعد رحلة علاج دامت طويلا وعمر يناهز 88 عاما. إنها رحلة طويلة من الكتابة والتفكير والتأمل في ذلك العالم المجهول الذي رحل عنه فكفت بلابل الصباح عن التغني وسقطت فيثارت الشدو عن الإلحان فقد رحل عالم اخترق بفكرة أفاق المجهول فكشف عن العين حجب الغيم الفكري رحل إلى عالم أكثر رحابة انتقل من الظلمة إلى الضياء انتقل إلى عالم أكثر رحمة إلى عالم ربما يكون أكثر رواعة وجمالا.!!