الأب رفيق جريش
في شهر أكتوبر من عام 2010، شرّفنى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر بتعيينى خبيرًا في السينودس الخاص بالشرق الأوسط (وكلمة سينودس تعنى السير معًا)، لأحلل ما يقوله الكرادلة والبطاركة والأساقفة من العالم أجمع، خاصة من الشرق الأوسط، عن الإعلام في الأربع جلسات التي كانت تعقد يوميًا بقاعة خاصة تسمى قاعة السينودس في الفاتيكان مدة ثلاثة أسابيع، فكل مساء أحلل كلماتهم وألخصها وأقدم الاقتراحات التي إذا وافقت عليها اللجنة الخاصة التي كان يترأسها سيادة البطريرك المصرى الكاردينال أنطونيوس نجيب تدرج في التوصيات الأخيرة للسينودس ثم يوافق عليها قداسة البابا.
أجواء ذلك العام كانت مشحونة، فالعراق كان مر عليه عشر سنوات من الغزو الأمريكى الذي قسم البلد، وظهرت ميليشيات تسمى نفسها «الدولة الإسلامية» (ومسميات أخرى) وكانت فرعًا من فروع «القاعدة» كما قيل لنا في ذلك الوقت، والتى منها أصبح «داعش» بعد ذلك، وفى مصر كانت الفتن الطائفية بين المسلم والمسيحى برنامجًا يوميًا، إضافة لانتخابات مجلس الشعب التي شابها كثير من التزوير، إضافة إلى ارتفاع موجة الإسلام السياسى والفكر الوهابى في كثير من الدول العربية والإسلامية، والتى كانت تبث الأفكار المسمومة حول المسيحيين وكذلك المرأة والفن والموسيقى وما إلى ذلك، واستشعر الجميع أن إدارة أوباما في الولايات المتحدة كانت تناصر الإسلام السياسى وترى فيه شريكًا، وظهور نظرية لكونداليزا رايس حول الفوضى الخلاقة، وقد ثبت فشل هذه السياسة باعتراف قادة ذلك الوقت في مذكراتهم التي كتبوها لاحقًا، وبدأت الرمال تتحرك تحت الأقدام. فانتبه لها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ودعا لسينودس خاص حول الشرق الأوسط تحت شعار«شركة وشهادة»... والتأم السينودس.
كانت كلمات الآباء صريحة تُعبّر عن معاناة المسيحيين من صعود الإسلام السياسى وبروز الأفكار السلفية في كل الدول العربية والإسلامية، مع اختلاف درجات المعاناة التي وصلت في بعض الأحيان إلى الإقصاء والاضطهاد الصريح. وفى أثناء السينودس، اعترضت كل من إسرائيل على تصريحات الآباء حول الوضع في فلسطين، وتأخر حل القضية الفلسطينية، وتصرفات الأمن الإسرائيلى نحو الفلسطينيين والعمل على تجويعهم ومنعهم من الوصول إلى أعمالهم، كما أن «الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين» هددت وتوعدت.. وبالفعل ما إن انتهى السينودس بعدة أيام في مثل هذا الوقت من أكتوبر حتى دخل مسلحون «كنيسة النجاة» في بغداد للسريان الكاثوليك وقتلوا كاهنين وأخذوا المؤمنين، حوالى 120 كرهائن، تم تحريرهم يوم الأول من نوفمبر 2010، قتل فيها 52 شخصًا بين مدنى ورجل أمن أثناء تحرير الرهائن. وذكر بيان «دولة العراق الإسلامية» الذي أوردته وكالة «فرانس برس» أن الهجوم كان موجهًا ضد الكنيسة القبطية، وفعلًا بعد تمام الشهرين في ليلة رأس السنة 31 ديسمبر 2010 / 1 يناير 2011 تم تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، وراح ضحيته 24 قتيلًا ومئات من الجرحى.. وإلى اليوم لا أعرف لماذا لم تأخذ وزارة الداخلية حين ذاك تحذيرات التنظيم الإرهابى مأخذ الجد رغم تحذيرهم المعلن؟!.. هذا التقاعس سيظل لغزًا إلى أن ينكشف.
وبعد مرور 9 سنوات على هاتين الجريمتين، فإنهما ما زالتا تمثلان جرحًا غائرًا للإنسانية دون أن تضمد جراح من عايشوا تلك المآسى وشاهدوا تلك الساعات الثقيلة، سواء المحتجزين وسط لعلعة الرصاص الحى والتفجيرات وهى تحصد الأبرياء دون طائل وأروقة الكنيستين تسبح بالدماء الزكية، حتى الشهود على تلك الجريمة لم يحظوا بفرصة تضميد الجراح التي تعرضوا لها، سواء الجسدية أو النفسية. وقد تلتهما بعد ذلك جرائم أخرى من الإرهابيين، ليس فقط للمسيحيين ولكن للمسلمين أيضًا، فشاهدنا منهم السبى والاغتصاب والتفجيرات والسرقات، بينما المجتمع الدولى لم يكلف نفسه إلا الورقة التي كتبوا عليها تصريحات الشجب والإدانة.
هذه الذكريات نوردها لكى نتذكر ما كنا نعيشه في تلك الحقبة، وحتى لا نسمح لتقاعسنا بأن يعيد نفسه، فهناك تيارات إيجابية في الأفق، كانت مصر السباقة فيها، ثم دولة الإمارات التي شهدت بناء الكنائس وتوقيع وثيقة «الأخوة الإنسانية» بين فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب والبابا فرنسيس، كذلك في المملكة العربية السعودية والسودان وغيرهما، ولكن تصارعها قوى الشر في دول أخرى لن نسميها الآن، إلا أن الحرص على قيمة المواطنة واجب قومى بامتياز.
نقلا عن المصرى اليوم