سيناريو وحوار – مصطفى عبيد

فى الخيال السياسى كل شىء ممكن، وكل أمر جائز، وكل فعل محتمل، وردود الافعال قابلة للحدوث. عقارب الساعات تعود الى الوراء خائفة، قلقة متوجسة لتحكى لنا مالم يحدث، وترسم واقعا كئيبا لما كان يمكن أن يجرى إن لم ينزل المصريون الى ساحات وشوارع مصر يوم 25 يناير 2011.

السيناريو ملفق، والاحداث لم تحدث لكن من الضرورى استقراء الواقع الآخر إن التزم الناس بدعوات التعقل والاستكانة وقبعوا فى منازلهم.
المشهد الاول: نهار خارجى يوم 25 يناير أمام دار القضاء العالى
سبعة شباب يتحلقون فوق الرصيف المواجه للمبنى العتيق وتقف وسطهم فتاة محجبة ترتدى علم مصر وهى تهتف بصوت عالى، والجميع يردد خلفها: «أمن الدولة يا امن الدولة.. أنتو أمن دولة مين انتو أمن دولة مصر، ولا أمن اسرائيل. يا حبيب سبنا وغور. يا خدام الديكتاتور. هو مبارك عاوز ايه... عاوز الشعب يبوس رجليه.. لأ يا مبارك مش هنبوس. بكرة عليك بالجزمة ندوس.

رجل خمسينى يسمع الهتافات فيقترب من الشباب المتحلق ويصرخ فيهم: روحوا شوفوا لكم شغلانة بدل الكلام الفاضى ده. عيب يا ولاد مبارك ده زى أبوكم. سيدة أخرى تلقى نظرة على المظاهرة وتتذكر ابنها المتخرج من كلية التجارة منذ ثلاث سنوات بلا عمل وتقول لنفسها «معهم حق»، لكنها لا تلبث أن تسير وتكمل مشوار العودة الى المنزل بعد شراء حاجيات الغذاء.
يتواصل الهتاف وتطل رؤوس من شرفات بعض المبانى المواجهة لتسمع نقدا مباشرا صريحا ضد رئيس الجمهورية. «يا رئيس الجمهورية.. شفنا فى عهدك العبودية». ثمة أسوار بشرية متحركة بلباس أسود تضغط على المتحلقين لتحصرهم فى ركن صغير بجوار مبنى القضاء العالى.
جهاز لاسلكى فى يد بذلة سوداء يردد «تحرك» فيعطى ضابط شاب إشارة بيديه للانقضاض على الشباب السبعة وجرهم جرا الى عربات مصفحة وقفت فى الناحية الاخرى من الشارع. توقعت الفتاة أن يسارع المارة والمتفرجون لحمايتها، إلا ان شيخا كبيرا كان يردد أمامهم عبارة بليغة دفعتهم للتريث. كانت العبارة التى تتردد على مسمع الحضور: «لعن الله الفتنة.. لعن الله الفتنة».

دفعت الفتاة الهاتفة دفعا الى داخل مركبة مظلمة، ولم تمر ثوان قليلة حتى ربطت عينيها بغمامة سوداء وانطلقت السيارة الى المجهول.
المشهد الثانى – ليل داخلى يوم 25 يناير. أحد المنازل فى حى مصر الجديدة:
يجلس شاب وسيم أمام جهاز حاسب آلى شخصى «لاب توب» ويكتب على موقع التواصل الاجتماعى الفيس بوك:
« لابد أن يتحرك المصريون لينفضوا قيود الذل. آن الاوان أن يعيش الناس أحرارا فى بلادهم. لا إهانة لمواطن فى قسم شرطة، ولا إجبار على دفع الرشوة فى أى مصلحة حكومية، ولا انكسار وعبوس دائم لعدم كفاية الدخل لمتطلبات المعيشة. سنتجمع فى كل الميادين من أجل مصر ومن أجل المصريين. كفى سكوتا على الظلم.مصر تستحق مكانة أفضل والمصريون يستحقون حياة أكرم.
ثم يكتب على موقع «تويتر»:
«خالد سعيد كشف الفساد ومات قهرا على أيدى الظلمة، وسيد بلال قتل صعقا بالكهرباء، فيا من تجلس فى بيتك ماذا ستقول غدا لربك إن علمت ما جرى فلم تنصرهم ولم تنصر غيرهم من المأسورين بين جدران الخوف والقمع».
لحظات وتسمع طرقات متلاحقة على باب الشقة، وعندما يفتح الباب يدخل رجال غلاظ ليحملوا ناشط «الفيس بوك» حملا بعد أن يبعثروا محتويات الشقة رأسا على عقب. تصفعه يد غليظة بعد أن يسأله: مين معك؟ بتكلم مين؟ ثم يصيح فى جنوده: هاتوه.
ينفتح باب عربة الشرطة ليجد الناشط أصدقاءه الذى كان يكتب لهم منذ قليل وسط الظلام. حسن، نادر، مينا، عبد العزيز، واحمد يا صحبة الشقا.

 

المشهد الثالث – نهار داخلى يوم 26 يناير – قصر العروبة بمصر الجديدة.
فضاء وسيع ممتد ليشعر الجالس برحابة واتساع نفوذ النظام الحاكم. الرئيس مبارك يجلس على أريكة سوداء وأمامه جريدتان قوميتان. يرفع الرجل الهارب الى العقد التاسع ساقه يسندها على مقعد دائرى أمامه بينما يذيع التلفاز وقائع احتفال قديم له بعيد الشرطة كأنه مازال جاريا. يضحك مبارك بصوت مرتفع ثم يعقد حاجباه وهو يتحدث لرجل نصف منحنى أمامه بصوت جهورى كأنه يخطب.
- حبيب لم الدور بدرى بدرى. العيال دى كانت هتقرفنا لو سبناهم احنا هنكمل اللى اتفقنا عليه خلال شهرين تلاته. ابعت لى جمال وحبيب.
يخرج الرجل الذى يشبه جمال عبد العزيز سكرتير الرئيس قبل أن يطالع مبارك مقالا للصحفى المتملق الذى اعتاد نفاقه كل اسبوع متحدثا عن مناقبه بساطته وتعبه وجهده وحرمانه من كثير من ملذات الطعام من أجل مصر، حتى الملوخية بطشتها المبهرة.
يدخل حبيب العادلى منحنيا قبل أن يلحقه جمال مبارك رافعين صوتيهما بتحية الصباح حتى يسمعهما مبارك الذى اقتربت حاسة السمع لديه من التلاشى.
يقول مبارك: برافو يا حبيب. احنا مش عاوزين تموتوا العيال دى اضربوهم بس بشويش.
يرد حبيب متذللا:
- طبعا يا فندم. هى العيال دى اترنوا علقة محترمة عشان يحرموا يغلطوا فى سيادتك. دول عيال قليلة الادب.
- السيناريو جاهز؟

- جاهز يا افندم.
- طب يلا.خد جمال وشوفوا عز ونفذوا. أنا هاخلي الواد الصحفى الاراجوز اللى أنت عارفه يكتب لى خطابا تاريخيا.
المشهد الرابع – نهار خارجى يوم 28 يناير. ميدان التحرير.
أعداد المتظاهرين تتناقص بشكل سريع. بين الحين والآخر يتسرب البعض عن طريق كوبرى قصر النيل استجابة لاتصالات من ذويهم. الآباء والامهات يدعون ابناءهم الى التعقل والبعد عن أى دعوات غريبة على مجتمعنا. رجل ملتحى يتحاور مع فتاة ترفع لافتة مكتوب عليها «عيش.. حرية..عدالة اجتماعية». يقول لها الرجل :
-عودى يا ابنتى الى بيت أهلك. الشرطة لا ترحم وأنت بنت. عارفة يعنى ايه بنت؟
تستجيب الفتاة بعد الحاحات الشيخ وتلقى بلافتتها الى الارض وتنسحب فى صمت. مع الوقت يتضاءل هدير الجموع وتخفت أصواتهم بعد أن فر كثير من مشاهير المثقفين الذين كانوا يشجعونهم قبل ساعات.
مع غروب الشمس يزحف الظلام رويدا رويدا على الميدان بعد أن قطعت الداخلية الكهرباء عنه، وآثر كثير من المشاركين على العودة الى منازلهم.
بيان هام يتردد فى جنبات الميدان بعد أن أذاعه التلفزيون الحكومى مفاده أن الرئيس مبارك سيترك السلطة بإرادته ويدعو الى انتخابات رئاسية. وفى خطابه للناس قال الرئيس أنه لن يسمح لأيدى العابثين أن تخرب أجمل الاوطان، وانه سيختم حياته بتجربة ديمقراطية يشرف عليها تسمح لجميع الناس بالاختيار الحر لرئيس منتخب بعد أن قضى كل عمره فى خدمة مصر. وحذر الرئيس مبارك من مندسين يحاولون تشويه وتخريب مصر يسمون أنفسهم بشباب 6 ابريل والاخوان المسلمين والجمعية الوطنية للتغيير.


المشهد الخامس نهار داخلى يوم 23 يوليو 2011 مبنى وكالة أنباء اجنبية – وسط القاهرة يكتب مراسل الوكالة فى تقرير له يرسله من القاهرة عما جرى خلال الشهور الاخيرة من تطورات سريعة فى مصر:
أعلن الرئيس مبارك عن تنازله عن السلطة لرئيس جديد منتخب وسمح بالترشح من كافة الاحزاب السياسية بشرط موافقة الامن العام، وأعلن الحزب الوطنى الديمقراطى عن ترشيح جمال مبارك أمين لجنة السياسات على مقعد الرئيس وترشح أمامه سيد نوفل من حزب النهار، وسالم سيد سالم مستقل، واحمد المناكف مستقل بينما رفض الامن العام طلبات آخرين للترشح بسبب سابقة تظاهرهم. وألقت قوات الشرطة القبض على 6 آلاف ناشط بتهمة بث الفرقة والدعوة للتخريب كان على رأسهم شاب غريب الاطوار يدعى وائل غنيم، وآخر اسمه احمد ماهر وفتاة تعمل بالتليفزيون كان والدها من عتاة المجرمين السياسيين فضلا عن قيامه بكتابة الشعر واسمها نوارة نجم.

كما شمل قرار التحفظ كلا من أسماء محفوظ واسراء عبد الفتاح وعددا من الشباب الاشتراكى. وقرر النائب العام إسقاط الجنسية المصرية عن كل من الدكتور محمد البرادعى رئيس الجمعية الوطنية للتغيير، ومحمد بديع المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين.
وتم تشكيل لجنة عليا للاشراف على انتخابات الرئاسة برئاسة المستشار مرتضى مسرور وتحدد يوم 23 يناير 2012 كموعد لاجراء الانتخابات بينما يتم اعلان النتيجة يوم 25 يناير 2012 ليؤدى بذلك الرئيس المنتخب اليمين الدستورية أمام الشعب.
مشهد الختام – نهار خارجى يوم 25 يناير 2012 مقهى بميدان العباسية:


شاب عابث يجلس على المقهى ليقرأ عددا من صحف الصباح. لا يستغرب الشاب المانشيت الكبير فى صدر صحيفة الاهرام: جمال مبارك رئيسا للجمهورية. وتحت العنوان عناوين ببنط اصغر تقول : مبارك الابن يستكمل مسيرة الاب ومصر تدخل عصر الشباب، فى أزهى عصور الديمقراطية جمال يحصل على 91 % من اصوات الشعب، العادلى للداخلية، طنطاوى للدفاع، عز للصناعة، القط للاعلام، وابو النجا للتعاون الدولى.
وفى صحيفة الاخبار عنوان يقول : مبروك.. رئيس مدنى لمصر. جمال مبارك يؤدى اليمين الدستورية كرئيس خامس لجمهورية مصر. معمر القذافى وبشار الاسد يزورن القاهرة للتهنئة والبيت الابيض يشيد بنزاهة الانتخابات.
وفى الجمهورية : عرس الديمقراطية. وفى روزاليوسف: مبارك لمصر.