عادل نعمان
الكثير من الرجال يطالبون بحرية المرأة كاملة، ويدفعونها للتحرر من أسر النقاب والحجاب، ومساواتها بالرجل فى الحقوق السياسية والاجتماعية، وأن تكون الكفاءة والعلم أساس المفاضلة والاختيار بينها وبين الرجل لكافة المناصب دون تحيز، ثم تخرج علينا نائبة من جنسهن وبناتهن تطالب بتوقيع غرامة مالية على النساء غير المحتشمات فى الشوارع والأماكن العامة. وهى ردة ما بعدها ردة، وتربص بالنساء للإيقاع بهن أمام جحافل الغوغاء والبلطجية والهمج من المتربصين بهن وهم كثر، وتسليم بناتنا تسليم مفتاح لهؤلاء القوم أمام أعيننا فى الشوارع للتحرش بهن ومحاسبتهن ومساومتهن وابتزازهن وكسر كبريائهن، وإذا كنا جميعاً غير قادرين على حمايتهن من هؤلاء فى ظل قانون يحميهن، فما بالك إذا مكّناهم من بناتنا بالقانون أو أعطيناهم مفتاح الكرار بإرادتنا؟! والغريب أنه جاء على لسان من وجب عليها العمل على زيادة مساحة الحرية، وكسر القيود المجتمعية والدينية التى تعطل المرأة على الانطلاق والنجاح، والقيام بمهامها الرقابية، وليس الإيقاع بها فى طريق الفوضى مع هؤلاء، ولا أظن أن هذا المشروع بقانون يتم بحسن نية أو بغرض المصلحة العامة، بل أزعم أن وراءه تيار الإسلام السياسى أو السلفيين، أو على الأقل حب الظهور للسيدة النائبة، وهو مشروع لا طعم له ولا لون ولا رائحة إلا عند هؤلاء الغوغاء.
وتعالوا معاً لهذا «الغث» الذى يسمى مشروع بقانون. أولاً، وفقاً للمادة الرابعة من المشروع «لا يجوز الظهور فى مكان عام بزى أو لباس غير محتشم، أو يحمل صوراً أو أشكالاً أو علامات تسىء للذوق العام». ونبدأ معاً فى تعريف الذوق العام فى هذا المشروع: «هو مجموع السلوكيات والآداب التى تعبّر عن قيم المجتمع ومبادئه وهويته»، وهو تعريف مطاط، ويختلف الناس فى فهمه تبعاً لثقافتهم وبيئتهم وتعليمهم ومركزهم الاجتماعى والمادى، فما يراه الناس مرفوضاً فى القرية يراه الناس مقبولاً فى المدينة، وما هو مُر فى الريف يستطيبه الناس فى الحضر، وما ينكره الناس فى المناطق الشعبية يستحسنه الناس فى المناطق الميسورة، بل فى المربع السكنى الواحد يختلف الناس فيما بينهم، وما يرفضه الأب فى محيط سكنه لبناته يقبله فى المصايف وفى الأفراح والمناسبات، وليس بين كل هؤلاء قاسم مشترك يُتفق عليه، ثم من يحدد شكل وهيئة الاحتشام عند تطبيق الغرامة؟ أمين الشرطة أم ضابط أم الغوغاء فى الشارع، أو نجر المرأة من شعرها للحوينى أو حسان أو قسم الفتوى أو قسم البوليس؟
الزى، يا أيتها النائبة، سلوك اجتماعى بيئى، رهن جغرافية وثقافة وعلم وتعليم الناس، وقدراتهم المالية، فلا يصح أن يتسلط فيه طرف على الآخر، وإلا انتهكنا خصوصيات الناس، فما قبلوا جميعاً الحجاب لحشمته وما رفضوا بديله لخلاعته، فربما كان السبب ضيق ذات اليد عند بعضهن، والجبر والإرغام عند الأخريات والخوف عندهما معاً. هل سمعتِ عن عمر حين كان يضرب الإماء بالدرة إن لبسن لباس الحرائر أو تشبهن بهن؟ وكن يتحركن فى الشوارع والبيوت كاشفات الصدور والأفخاذ، وكانت عوراتهن كعورة الرجال من السرة حتى الركبة، وكن أجمل وأفتن من نساء العرب، ولم تخرج امرأة فى برلمانهم تطالبهن بالحشمة، فليست الحشمة فى الزى بل فى السلوك، فهناك نساء منتقبات عيونهن غير محتشمات من تحت نقابهن. ثم فى تعريفك للأماكن العامة (منها على سبيل المثال لا الحصر الأسواق والمجمعات التجارية والفنادق والمطاعم والمقاهى والمتاحف والمسارح ودور السينما والملاعب والحدائق والمنشآت الطبية والتعليمية والأندية الرياضية والشواطئ ووسائل النقل)، ما وجه التقارب بين الشاطئ والمستشفى، وهو -فى تعريفك- من الأماكن العامة، وبين المقاهى والملاعب، والمجمعات التجارية والأسواق الشعبية، والمسارح والسينما ووسائل النقل، والشوارع وفنادق النجوم الخمسة؟ حتى الأماكن لا صلة بينها ولا رابط، مول العرب غير سوق الجمعة، وشاطئ مارينا ومراسى غير مستشفى الساحل، والفور سيزون غير قهوة عجيبة، فما هو مستوى الحشمة الذى يجمع بينها، وما هو الشكل الذى يرجع إليه المراجعون والمحاسبون لقياس الحشمة وشكلها الذى يجمع كل هذه الأماكن العامة؟ هذه أمور، أيتها النائبة، تدركها المرأة بحسها دون وصاية من أحد ودون ضغط أو إكراه أو قانون، فزيارة المريض فى المستشفى غير ركوب المواصلات العامة والخاصة، وارتياد دور السينما والمسرح غير توصيل الأولاد للمدارس صباحاً، والجلوس على كراسى البحر غير الجلوس على مقهى فى محطة مصر انتظاراً للقطار، لكل منها شأن غير الآخر تعلمته بناتنا فى بيوتنا دون وصاية النائبة غادة عجمى أو مجلس الوصاية المصرى.
هناك عقد اجتماعى أيتها النائبة، لا تتخطيه أو تتجاوزيه، وهو حرية الفرد فى زيه وفكره وحرية انتقاله، فلا حق للدولة فى أن تتدخل فى لباس الناس وزيهم، سواء تحت دعاوى الحشمة، أو عدم الخروج عن تعاليم الأديان، فليست هذه مسئولية الدولة ولا شأن الأديان، فليست الحشمة فى الزى أو فى الملبس، فحين نسافر إلى خارج بلادنا نرى كل شىء أمام أعيننا متاحاً فلا ننظره، ولا نتحرش ولا نعتدى على حقوق الناس.. لماذا؟ الالتزام بالقانون واحترام حرية الآخرين، وعدم التجاوز على حق الغير، وهو الأجدر والأولى بالدعوة منك ومن أقرانك.
نقلا عن الوطن