الجوكر..
أخبار جذورك إيه؟
محمد طه
آرثر بيشتغل مهرج.. كوميديان بيعمل فقرة ضاحكة فى بعض الملاهى والمدارس والشوارع أيضاً.. بنشوفه فى أولى مشاهد الفيلم بيتعرض لتنمر وعنف جسدى ولفظى من بعض الشباب فى الشارع.. بعدها ده بيتكرر من زمايله فى الشغل.. وبيتكرر تانى من ثلاث شباب أثرياء فى المترو..
أحد أسباب اشتغال (آرثر) بالشغلانة دى هو طلب والدته منه باستمرار وهو صغير انه يفضل راسم ابتسامة على وشه طول الوقت.. ويينتهى يوم آرثر المعتاد بالجلوس مع والدته العجوز أمام التليفزيون لمشاهدة برنامجهم الكوميدى المفضل..
آرثر كان بيتعالج نفسياً.. مزيج من الاكتئاب والفصام واضطراب العرات (الحركات اللإرادية- فى صورة نوبات متكررة وغير مفهومة من الضحك والقهقهة).. وتكتمل مأساته بأن الخدمات الاجتماعية توقف دعمها لجلساته وتمويلها لعلاجه الدوائى، المكون من 7 أصناف نفسية.
حتى الوقت اللى حاول فيه آرثر يرفه عن طفل فى مواصلة عامة.. وصلته رسالة قوية وقاسية (بالرفض) من أم هذا الطفل.. حتى المرة اللى وقف فيها قدام جمهور راقى فى مسرح فخم.. جاتله نوبة الضحك المرضية منعته من الكلام وبوظت عليه فقرته.. حتى البنت اللى قابلها فى المصعد وأعجب بيها.. أول اشارة منها ليه كانت مليئة بالبؤس واليأس وانعدام الرجاء.. لما رفعت إيديها ناحية راسها فى شكل مسدس وكأنها عاوزة تنتحر من كتر ضغوط الحياة عليها وعلى بنتها..
علشان ده وغيره كتير، كانت الجملة اللى كاتبها (آرثر) ومكررها فى أجندة دعاباته (أتمنى أن يصنع موتى فرقاً أفضل من حياتى).. وفى اللحظة دى يعرض عليه أحد زملاؤه فى الشغل مسدس يخليه معاه علشان يدافع بيه عن نفسه وسط اضطرابات المدينة وعنفها المتصاعد.. ولسوء حظه المعتاد يقع المسدس من جيبه أمام الأطفال فى أحد عروضه الكوميدية بالمستشفى، ويصبح فى موقف حرج وغريب وغير مبرر.. ليتم فصله من عمله..
آرثر بيكتشف بالصدفة إن والده رجل أعمال شهير كان على علاقة بوالدته لما كانت شغالة عنده من سنوات طويلة.. بيشوف الجوابات اللى بتبعتها أمه ليه بشكل شبه يومى من سنين بتطلب منه يعترف بابنه ويهتم بيهم ويساعدهم فى نفقات الحياة اليومية.. آرثر يروح للراجل قصره.. ويقابل (فى مشهد بديع) ابنه الصغير المهندم اللى باين عليه علامات الثراء والاهتمام والرفاهية.. بيقابله وبينهم سور حديدى ضخم.. بيفصل فى رمزية واضحة بين الحياة اللى بيحلم بيها آرثر وبين حياته الحقيقية على أرض الواقع..
الأب بيرفض الاعتراف بابنه.. مش بس كده.. ده بيلكمه على وشه بكل قسوة وجحود.. ويقوله إن أمه أصلاً مش أمه.. وانها كانت عاوزة تتبنى طفل.. وكانت مصابة باضطراب عقلات تسبب فى ضلالات وتهيؤات أنه هو أب الطفل المتبنى.. وحكاية فى منتهى الغرابة..
آرثر راح مستشفى المدينة.. ووصل لسجلات والدته.. واتأكد انها فعلا مريضة.. وكانت محجوزة فى المستشفى.. وانه مش ابنها.. وانه فعلاً طفل لقيط مالهوش أهل.. وانه تعرض وهو صغير منها ومن صديقها لضرب وإهانة وسوء معاملة أدت بيه لإصابة فى المخ.. وهنا كانت نهاية آرثر اللى احنا نعرفه.. أو حتى اللى هو يعرف نفسه.. وبداية آرثر جديد تماماً..
انتهى آرثر الحزين البائس المتردد.. وخرج منه آرثر المارد الجبار المنتقم.. ذهب آرثر الكوميدى المداعب المبتسم. رغم أحزانه.. وحضر آرثر الساخر اللاذع القاسي رغم ضعفه.. اختفى آرثر المكسور الجريح منحنى الظهر.. وظهر آرثر المغرور المتعالى منتصب الجسد.. تغيير كامل فى الشخصية.. والتركيبة.. والهيئة.. لكنه وبكل أسف.. تغيير للأسوأ..
آرثر تحول إلى مجرم.. سفاح.. قاتل محترف.. قتل الست اللى كان فاكرها أمه.. والراجل اللى تصور إنه أبوه.. قتل طبيبته النفسية.. قتل شباب المترو.. وقتل المذيع اللى كان بيحبه..
آرثر قرر أن يقتل العالم.. ويحرق الكرة الأرضية..
لأنه مالقاش حد ينتمى ليه..
أيون..
مالقاش حد ينتمى ليه..
مشكلة آرثر (الجوكر) مش بس إنه تعرض للتنمر والعنف اللفظى والجسدى من كل من حوله.. لأ.. مشكلة آرثر الحقيقية هى انه فقد أى حد وأى حاجة ممكن ينتمى ليها..
الفيلم مش عن التنمر وأثره فى حياة الإنسان.. ده كلام يتقال ببساطة فى الجرايد والمجلات وبرامج التلفيزيون.. الفيلم فى عمقه عن (هو انت بتنتمى لمين؟ هو انت بتنتمى لإيه؟
عندك إجابة على السؤال ده؟
طيب..
نقول كمان..
هو انت بتنتمى لحد؟
مين آخر حد انت فاكر انك انتميت ليه؟
واللا انت مقرر من جواك انك تعيش (لامنتمى)؟
فى هرم (ماسلو) للاحتياجات الإنسانية.. (الانتماء) بييجى فى الترتيب التالى على طول بعد تلبية الاحتياجات البيولوجية من أكل وشرب وملبس، بعدها الشعور بالأمان والاطمئنان والاستقرار..
المقصود بالانتماء هو الانتماء لعيلة.. لمجموعة.. لشلة أصحاب..
الانتماء لأرض.. لناس.. لوطن.. لدين..
الانتماء لحبيب.. الانتماء لصديق.. أو حتى الانتماء لفكرة..
احنا محتاجين مانحسش اننا لوحدنا.. محتاجين مانحسش اننا
مقطوعين من شجرة.. محتاجين يبقى لينا جذور..
الجذور دى بقى اسمها الانتماء..
علشان كده حتى اسمك.. بينتمى لاسم والديك وأجدادك وأجداد أجدادك.. وفى ثقافات أخرى.. اسم الست بينتمى لاسم زوجها..
تعالى كده راجع تاريخ حياتك معايا.. وشوف كنت بتنتمى لمين.. وامتى..
انتميت لأبوك؟ انتميت لأمك؟ لاخواتك؟ لعيلتك؟ حسيت انك واحد منهم وانهم جذورك؟ حسيت انك مفهوم ومقبول وسطيهم؟
انتميت لشلة صحاب بتحبهم؟ كنتوا بتضحكوا وتبكوا مع بعض؟ كنتوا بتشوفوا الدنيا بعيون بعض؟ كنتوا بتهونوا صعوبة الأيام على بعض؟
انتميت لأرض؟ انتميت لوطن؟
طب حبيت؟
حسيت انك منتمى للى بتحبها؟ حسيت إنها سكنك؟
حسيتى إنك بتنتمى للى بتحبيه؟ حسيتى إنه يخصك وتخصيه؟
الانتماء عامل زى البيت اللى بترجعله آخر النهار بعد تعب يوم مرهق علشان تهدى وترتاح..
عامل زى الأرض الصلبة اللى رجلك ما بتصدق توصل لها وتلمسها بعد ما كنت هاتغرق فى بحر واسع..
عامل زى حضن أكتر حد بتحبه.. فى أصعب أوقات حياتك..
لكن.. وبكل أسف..
مش كل الناس اللى عايشين مع بعض.. بيحسوا انهم بينتموا لبعض..
ومش كل الناس اللى شايلين أسامى بعض.. بيحسوا انهم بينتموا لبعض..
ومش كل الناس اللى بيضحكوا فى صور بعض.. بيحسوا انهم بينتموا لبعض..
فقط الناس اللى بيحبوا بعض.. بيحسوا انهم بينتموا لبعض.. فقط هؤلاء.. وهؤلاء فقط..
الانتماء شعور غالى.. واحتياج أصيل.. ماينفعش فيه الكدب.. ولا التصنع.. ولا التمثيل..
أكلمك عنى؟
أنا فيه منى حتة بتنتمى لأبويا.. وحتة بتنتمى لأمى..
فيا جوايا جزء بينتمى لأستاذى د. رفعت..
فيه جزء بينتمى لأولادى..
فيه جزء بينتمى لزوجتى..
أنا بانتمى لناس كتير.. فيه ليا جذر في كل حد حبيته..
بس ماليش جذور فى الأماكن.. عمرى ما حسيت إنى بانتمى لمكان.. كل الأماكن عندى زى بعض.. كل الأراضى ممكن تبقى بيوتى.. وكل البيوت ممكن تبقى أرضى..
أنا باحس بالسكن والسكينة جوايا.. فسهل عليا أسكن أى مكان..
وكأنى شايل جذورى معايا، وماشى بيها..
باقولك تانى معلهش؟
هو انت أخبار جذورك إيه؟
افتكرت دلوقت مشهد من فيلم Avatar.. لما كان الجندى الأمريكى مريض وعاوزين يعالجوه.. وأخدته حبيبته وصلته بجذور كل عيلتها وأهلها وأجدادها.. مشهد الجذور وهى بتتصل وتتواصل وتنور بعضها.. مشهد مهيب..
تصور يكون ليك شبكة من الجذور عند الناس والحاجات اللى بتحبها..
ليك عند ده حب زى مانت..
وعند ده قبول بدون شروط..
وعند ده احترام جد وحقيقي..
مافيش فى الدنيا حاجة تساوى ده..
عارف..؟
كتير من اللى بينضموا للجماعات الإرهابية.. بيدوروا على الانتماء اللى مالقوهوش فى بيوتهم بين أهاليهم..
كتير من المكتئبين والقلوقين.. من الشكاكين والموسوسين.. من الفصاميين والذهانيين.. من مضطربى الشخصية والتركيبة النفسية.. كل اللى بيدوروا عليه هو حد أو حاجة ينتموا ليها.. حتى لو كانت يافطة المرض المصابين بيه.. أو حباية البرشام اللى بياخدوها.. أو -فى أحسن الأحوال- الدكتور اللى بيروحوله بكل ثقة وإصرار علشان يعالجهم..
وكتير من المجرمين والسفاحين وقتالين القتلا.. لو كانوا لقيوا حد أو حاجة حقيقية ينتموا ليها، لكان مصيرهم وحياتهم اتغيرت للنقيض تماماً..
عارف كمان..؟
فيه ناس بتنتمى لفكرة.. أو لشعور.. أو لرمز.. أو لمكان.. أو لحلم..
ناس بتنتمى لفكرة الحرية.. ناس بتنتمى لشعور الحب.. وناس بتنتمى للحياة.. كده زى ما هى..
وفيه حد يعيش ويموت (لامنتمى).. ويفضل طول حياته يلف ويدور على حاجة هو مش عارفها.. وسط ناس هو مش حاسس بيهم.. وفى أماكن تشبه داخله المحتاج..
نرجع تانى لآرثر..
اللى كان كل يوم بيلاقى جذر من جذوره اتقلع.. وجزء من حياته انهار..
يرسم الضحكة على وشه بإيده.. مش نافع..
يلاعب ده ويداعب ده.. برضه مش نافع..
يبعد عن ده ويتجنب ده.. حتى ده مش نافع..
لغاية ما لقى نفسه فى الآخر.. بدون أب.. بدون أم.. بدون صديق.. بدون حبيبة.. وأخيراً.. بدونه هو شخصياً..
فقد كل شئ..
فهان عليه كل شئ..
بأقولك كمان مرة أخيرة.. معلهش استحملنى..
هو انت بتنتمى لمين؟ هو انت بتنتمى لإيه؟
إذا كان ليك حد تنتمي ليه.. امسك فيه بإيديك واسنانك.. واضرب جذورك فى أعمق أعماقه.. افتكره.. كلمه.. احكيله.. ادخل فى حضنه.. اسمعه.. خليه يسمعك.. ارجعله كل شوية.. ولو بمكالمة تليفون..
واذا ماكنش ليك حد تنتمى ليه.. ولو حتى فكرة.. أو رمز.. أو مكان.. دوّر.. ماتزهقش.. وماتستسهلش..
فالوحدة.. رغم انها مغرية.. لكنها مميتة..
والعزلة.. رغم ما يبدو فيها من حرية.. لكنها سجن داخلى محكم..
والانسحاب.. رغم هدوءه الظاهر.. لكنه يفتح عليك صخبك الداخلى..
بلاش تعيش من غير جذور..
بلاش تقص الناس من جواك وترميهم بعيد عنك..
بلاش تملاك الغربة.. وحواليك ناس بتحبك..ان شالله واحد.. واحد بس..
حتى لا تتحول فى يوم من الأيام..
إلى (جوكر)..
ترسم ابتسامتك بإيد..
وتقتل العالم بالإيد التانية..
استنى رايح فين..
أخبار جذورك إيه؟
#محمد_طه