الخلفيات التاريخية وحيثيات القرار
القس/ نصرالله زكريا
Rev_Nasralla@yahoo.com

تباينت ردود فعل القيادات الكنسية في مصر بعد القرار التاريخي الذي اتخذه مجمع القاهرة الإنجيلي برسامة المرأة قساً راعياً ومعلماً -وذلك لأول مرة في تاريخ مسيحية الشرق الأوسط- مما يؤكد على اتساق الفكر اللاهوتي والعقيدي الإنجيلي مع التطبيق الواقعي والاختبار المُعاش، ويمنح ذلك القرار لمجمع القاهرة الإنجيلي الريادة على بقية المجامع الإنجيلية ليس في مصر فقط، بل في الشرق الأوسط كله.


فمنذ انطلاق الإصلاح الإنجيلي للكنيسة، فإن التأكيد المستمر على عدم فصل الإيمان الإنجيلي والفكر اللاهوتي المصلح عن الواقع الاجتماعي والاختبار العملي دائماً ما تؤكده مثل هذه القرارات، فحين يؤكد الكتاب المقدس على المساواة بين الرجل والمرأة قائلاً: "لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 3 : 28)، فإن الكنيسة الإنجيلية لا تجعل هذا المبدأ حبيس التنظير اللاهوتي الدوجماتي فقط، لكنها دائماً وأبداً تُفعِّل ما تؤمن به في قرارات وأسلوب حياة يساعد على تغيير وتطوير المجتمع الذي تعيش وسطه.
وتلك الخطوة التي خطاها مجمع القاهرة الإنجيلي كانت لها بداياتها التاريخية سواء على مستوى التنظير اللاهوتي، أو على مستوى الإجراءات القانونية والسنودسية وصولاً لاتخاذ مثل هذا القرار.
أولاً: الخلفيات التاريخية لقرار رسامة المرأة قساً
بقراءة متأنية لتاريخ الكنيسة الإنجيلية في الشرق الأوسط عامة، ومصر خاصة، تتضح ريادتها في ربط التفكير اللاهوتي والكتابي بالواقع العملي المعاصر، وانطلاقاً من الرؤية اللاهوتية للكنيسة الإنجيلية والفهم الكتابي للمساواة بين الرجل والمرأة، وتطبيقه في الواقع العملي، كانت الكنيسة الإنجيلية رائدة في مجال تعليم المرأة، فقد افتتحت الكنيسة الإنجيلية أول مدرسة لتعليم المرأة عام 1835، وقت كان التعليم مقصوراً على الذكور فقط، وعار على المرأة، واليوم أصبح عدم التعليم للمرأة هو العار في حد ذاته.


وفي عشرينيات القرن الماضي كانت للكنيسة الإنجيلية في مصر مدرستين لا لتعليم الفتيات فقط، بل لتخريج المبشرات المتفرغات لخدمة الإنجيل، بالتساوي مع المبشرين العلمانيين خريجي مدرسة اللاهوت، واستمر هذا الحال حتى الخمسينيات وتحديداً، بعد إصدار قانون العمل والذي وضع مسؤولية على سنودس النيل الإنجيلي –المجلس الأعلى للكنيسة الإنجيلية المشيخية- أن يُسجل المبشرين والمبشرات لديه في هيئة التأمينات الاجتماعية، وقتها قرر السنودس الاستغناء عن وظيفة مبشر علماني، وبناء عليه فقد تحولت المبشرات العاملات في الكنيسة وقتئذ للعمل في جهات أخرى منها دار الكتاب المقدس أو لتعليم الدين في المدارس، ومما هو جدير بالذكر أن واحدة على الأقل من هؤلاء المبشرات تعيش إلى الآن في مدينة طنطا.
كما يسجل التاريخ أيضاً أن مجلس الكنيسة الإنجيلية بالأزبكية –أقدم كنيسة إنجيلية في مصر- وقت أن كان القس غبريال رزق الله، رئيساً لمجلسها اتخذ قراراً في عام 1937، برسامة المرأة شيخاً مدبراً، وقد تم انتخاب المرأة لرسامتها شيخاً مع عدد من الرجال، إلا أن قساً وقتئذ، اعتراض على تلك الخطوة فما كان من القس غبريال رزق الله ومجلس كنيسة الأزبكية إلا أن يؤجلوا رسامة المرأة شيخاً حتى لا يُعثِروا ذلك القس، وليمنحوه الوقت الكافي لتفهم ذلك القرار، ومع تكرار التأجيل لم ترتسم المرأة شيخاً في تلك الفترة.


ومع نهاية ستينيات القرن الماضي وبالتحديد في عام 1970، شهدت كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة تخريج أول سيدة بدرجة بكالوريوس الفلسفة والعلوم اللاهوتية، وهي الدرجة العلمية المؤهلة للرسامة قساً، وكانت تلك السيدة هي فيكتوريا فهيم عزيز.


وفي عام 1971، اتخذ مجلس الكنيسة الإنجيلية بالملك الصالح، قراراً برسامة المرأة شيخاً مدبراً للكنيسة، وقد كان الدكتور القس لبيب مشرقي راعياً لتلك الكنيسة ورئيساً لمجلسها وقت اتخاذ ذالك القرار، وبالفعل تمت رسامة سيدتين للمشيخة في الكنيسة، وهن السيدة ماري فاضل، والسيدة منيرة توفيق، ولأن رسامة الشيوخ حق أصيل لمجلس الكنيسة يكفله له دستور الكنيسة الإنجيلية المشيخية، فقد كان قرار المجلس قراراً سليماً من الناحية الدستورية، وبالرغم من ذلك، كان المجلس سبق ودرس اتخاذ مثل هذا القرار -عبر سنوات- من كافة النواحي الكتابية واللاهوتية والدستورية والاجتماعية، قبل أن يُقر تلك الخطوة التي رأى المجلس والكنيسة وقتها أنها في احتياج حقيقي لوجود المرأة شيخاً في خدمة الكنيسة.


ومع تفعيل قرار مجلس الكنيسة –صاحب الحق الأصيل- لقراره برسامة المرأة شيخاً، ثارت زوبعة فكرية ولاهوتية ودستورية في جنبات الكنيسة الإنجيلية في مصر، ورُفع قرار رسامة المرأة شيخاً لعرضه على سنودس النيل الإنجيلي –المجلس الأعلى للكنيسة الإنجيلية في مصر- الذي اتخذ قراره رقم (76/ 73)، بتأجيل النظر في الموضوع للعام التالي حتى يكون الموضوع مطُروحاً للنقاش وليقدَّم كل فريق مؤيد أو معارض دراساته في هذا الشأن. ولم يتخذ السنودس في ذلك الوقت قراراً يؤيد أو يُعارض تلك الخطوة التي اتخذها مجلس الكنيسة الإنجيلية بالملك الصالح.


وفي عام 2002، اتخذ مجلس الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط برئاسة القس باقي صدقه، قراراً مماثلاً برسامة السيدة مارسيل مهني شيخاً بالكنيسة، ذلك القرار الذي أثار الموضوع ثانية أمام السنودس، وبعد دراسات مستفيضة راعى فيها السنودس الفكر اللاهوتي والكتابي للكنيسة الإنجيلية، والبعد البيئي والمجتمعي لمثل هذه القرارات، وبالعودة للدراسات التي قدمها أكثر من عشر قيادات كنسيَّة بخصوص هذا الموضوع، اتخذ السنودس قراره رقم (31/ 116) لسنة 2006، بالإجماع بإقرار حق رسامة المرأة شيخاً، على أن يُترك للمجامع ومجالس الكنائس الحرية في تنفيذ هذا القرار، وبهذا القرار أي رسامة المرأة شيخاً، تكون المرأة عضواً في مجلس الكنيسة المحلية، عضوية كاملة، وعضواً منتدباً بالمجمع الذي تتبعه كنيستها المحلية، وأيضاً عضواً في السنودس والمحفل العام، وقد تكون رئيسة للجنة مجمعية، أو سنودسية، ليس لجان المرأة فقط، بل اللجان المُشكلة من الرجال والسيدات، كما يكون لها حق الاقتراع والترشيح والتصويت والاعتراض والطعن على أي قرار كنسي مثلها مثل أي شيخ أو أي عضو معها، في لجنة أو مجمع، وقد تكون نائبة رئيس مجمع.
وما أن حلَّ عام 2007، إلا واتخذ مجلس الكنيسة الإنجيلية بالفيوم قراره الذي يتوافق مع قرار السنودس وكتفعيل له، برسامة السيدة وفاء فيكتور، شيخاً للكنيسة الإنجيلية بالفيوم، وكذلك ما اتخذه مجلس الكنيسة الإنجيلية بالعطارين عام 2008، بإقرار رسامة السيدة جان كامل يوسف شيخاً بالكنيسة. وفي عام 2010، رُسِمَت السيدة فيبي زاخر غالي شيخاً بالكنيسة الإنجيلية الرابعة بالمنيا، وهكذا أصبح من حق المرأة أن تُرتسم شيخاً في الكنيسة الإنجيلية بقرار سنودسي ودون اعتراض منه.


ومن الجدير بالذكر أن الكنيسة الإنجيلية تؤمن بعقيدة كهنوت جميع المؤمنين والتي تساوي بين الأعضاء المؤمنين والمسجلين في عضويتها، فإن الهيكل الإداري والتنظيمي للكنيسة الإنجيلية يتسق مع هذا المبدأ، فلا يُفرق بين عضو وآخر إلا في الإطار الإداري التنظيمي فقط ومن هنا فإن مجلس الكنيسة يتكون من وظيفة الشيخ المدبر، والشيخ المعلم، وهو الذي يُطلق عليه مسمى "قس"، وكلاهما لهما نفس الرتبة الكنسيَّة، إلا أن الشيخ المعلم أي القس، يكون متفرغاً للتعليم في الكنيسة، وبإقرار السنودس لحق المرأة أن تُرتسم شيخاً، أنه فتح المجال عملياً لأن تُصبح المرأة قساً إنجيلياً.
وهذا ما حدث فعلاً، ففي عام 2009 كانت السيدة "آن إميل زكي" -وهي ابنة قسيس إنجيلي- قد أتمت دراساتها اللاهوتية بأمريكا، تلك الدراسة المؤهلة لرسامتها قساً بحسب نظم ولوائح الكنيسة الإنجيلية، وقد حصلت على فعلاً على تصريح بالخدمة والرسامة في الكنيسة الإنجيلية من مجمع Grand Rapies، التابع للكنيسة الإنجيلية المشيخية بالولايات المتحدة الأمريكية (C.R.C)، ولرغبتها في أن تُرتسم في بلادها المصرية ووفق قواعد ودستور الكنيسة الإنجيلية المصرية التي تربت وترعرت فيها، وحيث لا يوجد مانع دستوري ولا لاهوتي يمنع رسامتها قساً في الكنيسة الإنجيلية بمصر، تقدمت بطلب رسامتها قساً كأول امرأة تتقدم بهذا الطلب، وقد تقدمت بطلبها هذا لمجمع القاهرة التابعة له حيث أنها عضواً بالكنيسة الإنجيلية بالقللي بالقاهرة، ومجمع القاهرة الإنجيلي هو الجهة المختصة في هذه الحالة بهذا الشأن.


حيثيات اتخاذ قرار رسامة المرأة قساً
بعد تقديم السيدة "آن إميل" طلباً لمجمع القاهرة الإنجيلي تطلب فيه رسامتها قساً، حيث أتمت المؤهلات الدراسية التي تمنحها هذا الحق، ولأنها تشعر بدعوة لأن تُرتسم قساً بالكنيسة الإنجيلية، قَبِل مجمع القاهرة الإنجيلي طلبها من حيث المبدأ، وبعد مناقشات مستفيضة، قرر إحالة طلب رسامة المرأة قساً للسنودس، بالإضافة لتحديد موعد خاص لأعضاء المجمع بكلية اللاهوت الإنجيلية لتقديم الدراسات الكتابية واللاهوتية في ضوء ظروف المجتمع المصري، سواء كانت تلك الدراسات مؤيدة أم معارضة لفكر رسامة المرأة قساً. ومن ثم تم تحدد خلال عام 2010، حيث قدَّمت دراستان أحدهما مؤيدة والأخرى معارضة رسامة المرأة قساً بالرغم من أن الدراستين استندتا على بعض من نصوص الكتاب المقدس.
ومع انعقاد دورة السنودس، ودراسته لطلب الرأي المقدم من مجمع القاهرة بشأن رسامة المرأة قساً، أعاد السنودس الطلب لمجمع القاهرة مؤكداً على أن المجمع هو صاحب الحق الأصيل في اتخاذ القرار بالرسامة أو الرفض.


وفي انعقاد مجمع القاهرة عام 2010، قدمت السيدة آن طلبها للمرة الثانية، ورأى المجمع إحالة الطلب للجنة التنفيذية للمجمع، التي اجتمعت وناقشت الموضوع وحيث أن السنودس لم يتخذ قراراً في هذا الشأن، بل أعاده للمجمع صاحب الحق الأصيل في اتخاذ القرار من عدمه، أبقت اللجنة التنفيذية الطلب أمام المجمع لحين اتخاذ قرار سنودسي بخصوص هذا الأمر، وبالتالي كان قرار اللجنة رفع الطلب للسنودس مرة أخرى، كما قررت اللجنة التنفيذية إمكانية رسامة السيدة "آن إميل" خارج البلاد.


وفي انعقاد مجمع القاهرة في دورته العادية في عام 2011 بالكنيسة الإنجيلية بالعباسية، تم طرح موضوع رسامة المرأة قساً للمرة الثالثة، وبعد مناقشات قرر المجمع إحالة الطلب للجنة التنفيذية المجعمية للدراسة وعقد مجمع خاص لدراسة هذا الأمر من كافة جوانبه، وبناء عليه، قررت اللجنة التنفيذية لمجمع القاهرة عقد مجمعاً خاصاً يوم الخميس 19 يناير 2012، للاستماع لبعض الدراسات المتنوعة سواء المؤيد منها والمعارض لرسامة المرأة قساً، وقد عُقِد المجمع فعلاً في الموعد المحدد، وكانت جلسة الانعقاد قانونية من الجهة الدستورية والقانونية، وبعد الاستماع للرأي والرأي الآخر ومناقشة الحضور أمر رسامة المرأة قساً، طُرح الموضوع للتصويت، وكان التصويت بالأغلبية لصالح قرار رسامة المرأة قساً، وتُلي نص القرار كالتالي: "بشأن موضوع رسامة المرأة قساً، وبعد دراسة الموضوع لاهوتياً وكتابياً واجتماعيا، وبعد الصلاة؛ قرر المجمع رسامة امرأة قساً بأغلبية الأصوات".
شهد يوم الجمعة انعقاد مجمع القاهرة الإنجيلي في دورته العادية، والتي صادق فيها على قرار المجمع الخاص برسامة المرأة قساً، وعليه أصبح قرار رسامة المرأة قساً قراراً مجمعياً ملزماً لمجمع القاهرة برسامة المرأة قساً.


وهكذا تقدمت السيدة "آن إميل" بطلب التصريح للرسامة قساً وفق قرار مجمع القاهرة الإنجيلي، وقد أحال المجمع طلبها إلى لجنة التعليم اللاهوتي لعمل اللازم كخطوة إجرائية ممهدة لرسامتها قساً لاحقة.


وهكذا يأتي قرار مجمع القاهرة الإنجيلي ليحسم قراراً يؤكد فيه اتساق الفكر اللاهوتي الإنجيلي وقدرته على التطبيق على أرض الواقع، رائداً في توجيه المجتمع.


ومن المتوقع أن يأتي قرار السنودس مصادقاً على قرار مجمع القاهرة الإنجيلي على أن يُترك للمجامع الحرية في تنفيذ هذا القرار تبعاً لاحتياجاتها وظروفها المجمتعية.