بقلم: أحمد صبح

ومهما تتبار القرائح والإلهام والأقلام متحدثة عن ثورة 25 يناير المصرية ، عازفة أناشيد عظمتها ، فستظل جميعاً كأن لم تبرح مكانها ، ولم تحرك بالقول لسانها ، فياشهيد الثورة أى معلم كنت ، وأى إنسان ؟ هذا المترع عظمة وأمانة وسموا ؟ ألا إن الذين بهرتهم عظمتك لمعذورون ، وأى سر توفر لك فجعل منك إنساناً يشرف بك بنو الإنسان ؟ يا أم الشهيد بأية يد طولى ، بسطتها شطر السماء ، فإذا كل أبواب رحمتها ونعمتها وهداها مفتوحة على الرحاب ؟
ياشباب الثورة ، أي أيمان ، وأي عزم ، وأي مضاء ؟!
وأي صدق ، وأي طهر ، وأي نقاء .... ؟!
وأي تواضع ... وأي حب ... وأي وفاء ؟!
وأي احترام للحياة .. وللأحياء ؟! أي يوم هذا في عظمته حتى صار من أيام الله ؟


لقد آتاكم الله من أنعُمِه بالقدر الذي جعلكم أهلاً لحمل راية هذه الثورة والتحدث باسمها ، بل بما جعلكم نموذجاً يحتذى ، ومن ثمّ كان فضل الله عليكم عظيماً ، جاء 11 فبراير 2011.م ليعلن رحيل الطاغية ولم يبق على أرض الكنانة شاب يافع ، ولا فتى ناضج ، ولا كهل سوي ، ولاكبير متقادم الميلاد ، ولاشيخ برى الدهر عظامه ، إلا وشارك في هذه الثورة المباركة .
لقد سقط القناع يومئذ برحيل الديكتاتور ، لتتجلى كلمح البصر فضيحة ذلك النظام وتتعرى حقيقته ، وبان لكل ذي عينين أن النظام كان يخدعنا بنفاقه ليسترق قوتنا وأموالنا ، والتي هي حق لنا لا ينازعنا فيها منازع ، ثم يزيف لنا بغطرسته كل حقيقة ، ويبهر أعيننا بدهائه ومحاله ومخاتلته ، لكي نعمى عن بشاعة فكره بنا ، وقبح استعلائه علينا ، وإمعاناً في الخداع والتضليل ، وإمعاناً من الصهيونية العالمية في التخفي ، فإنها كانت هي التي تحكم عن طريق عملائها ، كان الاستعمار الذي لم يرحل عن بلادنا بعد عن طريق عملائه ، يثير حروباً مصطنعة باردة أو ساخنة ، وعداوات مصطنعة في شتى الصور ، بينه وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها ، والتي يتم كفالتها بالمساعدات المادية والأدبية وحراستها بالقوى الظاهرة والخفية ، وجعل أقلام مخابراته في حذقتها وحراستها المباشرة ،كان الاستعمار عن طريق عملائه يجرد المصريين من مصدر قوتهم وهو الترابط بين المواطنين على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ، فقام بافتعال الأحداث ، حتى تستمر سبوبة الطواريء ، ولاننسى ماحدث لإخواننا الأقباط من تفجير في كنيسة القديسين بالاسكندرية ، ليقتل العديد من إخواننا الأقباط نتيجة خيانة هذا النظام البغيض ، والذي كان يصب علينا الاتهامات الكاذبة ويشن على المخلصين الحروب الفاجرة التي تسحق هذا الشعب على أعواد المشانق أو محقاً في السجون والمعتقلات ، بينما كانت وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام لقوي الاستكبار العالمية صماء خرساء عمياء !!


ولكن كانت الثقة في الله أعمق ، والأمل في الشباب أكبر ، فقامت الثورة المباركة كالأزهار الناضرة ، وحياتها وبشاشتها في انسانيتها ونورها ، قامت الثورة لتصحح أغلاط الزمن في أهله ، وأغلاط الناس في زمنهم ، جاءت الثورة لترف على المواطنين المساكين بحنان كحنان الأم على أطفالها ، والناس في ظل الديكتاتوريات كالأطفال غابت عنهم أمهاتهم ، فهم في تنافر صبياني ، وما الحرية إلا أم لهم ، وحكمة لطيشهم ، وائتلاف لتنافرهم ، ونظام لعبثهم ، وبالجملة كانت الثورة المصرية هي القانون الجامع لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة ، أرأيتم كيف كان إخواننا الأقباط يصبون ماء الوضوء على إخوانهم المسلمين ؟ أرأيتم كيف تم حماية الكنائس والمساجد عند غياب الشرطة والنظام ؟ أرأيتم كيف كان يعيش المصريون إبّان الانفلات الأمني ؟ أرأيتم كيف كان الأقباط يقيمون قداسهم في التحرير بحراسة المسلمين ؟ وكيف كان المسلمون يصلون بحراسة الأقباط ؟


هذا هو معدن الشعب المصري الأصيل الذي يجمع ثقافة الفراعين والأقباط والمسلمين بمذهب سني وهوى شيعي !! هذا هو الشعب الذي يؤمن بقضاياه والتي هي أكبر من مذاهبه واختلافاته الدينية !! هذه هي مصر التي حكم الإنجليز بالإعدام على سبعة مصريين ، أربعة من الأقباط وثلاثة من المسلمين !! هذه هي مصر التي نفى الانجليز قادتها وكانوا أربعة ، اثنين من المسلمين واثنين من الأقباط ، لقد فتحت الثورة امكاناً لمصر تهزم فيه ذكريات ماضيها المضطرب ، وتقهر فيه أخطار حاضرها الصعب ، إن النظام السابق الذي كان يعيش على تصغير انفرادي للهوية لمصرية ، وكان لذلك عواقب بعيدة التأثير ، لوهم كان يعيش عليه النظام السابق حتي يتمكن من استحضاره بغرض تقسيم المصريين إلى تصنيفات جامدة منفردة يمكن استغلالها لدعم إثارة النزاع الطائفي ، مما أثر في التفكير الاجتماعي ، والفعل السياسي والسياسة العامة ، ولكن أشرقت الأرض بنور ربها وقدم المصريون الشهداء من المسلمين والأقباط ، وخلعوا الديكتاتور ، بعد ليل دامس ، بطيء الكواكب ، حالك الجنبات ، إذ بالثورة ناصعة الوجه ، مؤتلقة الجبين ، تتردد في الأرجاء المصرية بهواتف حارة جائشة ، تجأر في قوة وإيمان ، بأن العاقبة للحق قضية صادقة تبرهن عليها حوادث الدهر ، وتنطق بها حقائق التاريخ ، خاصة بعدما تعرض شعبنا الحبيب للعسف البالغ ، والاضطهاد الأثيم .


ياشباب الثورة ، كم كان لكم من صدق المبدأ ، وصدق الكلمة ، وصدق الأمل ، وصدق النزعة ، عندما انفجرتم في التاريخ لتطلقوا قذائف الحق ، وما وجدناكم تُفتنون عن مذهبكم بجاه أو منصب ، أو موافقة هوى ، أو خوف نقمة ، أو خشية الوعيد إلى غيرها من كل ما يستميل الباطل ، أو يرهب به الظلم ، بعدما بدد الإرهاب البوليسي الخانق وفاءَ الناس ، وعصف بولاء المخلصين ، إلا ماكان من همس الشفاه ، وتساؤل النظرات .
ياشباب الثورة المبارك ، لقد كنا في السجون والمعتقلات ردحاً من الزمان ، ضاع فيه الماضي والحاضر والمستقبل ، وكم عانينا من مقبض السيف ، ورهبة البطش ، وكم قُتل صبراً المئات من إخواننا ، وأنا لا أريد أن أشرح مالاقاه الشباب قبلكم على يد هذا النظام البائد من مآسٍ قاسية تنفطر لها الأكباد ، ولكن أقول لكم كان الشقاء يمتد ما يمتد ، ولايزال كأنه على أوله لايتقدم إلى نهاية ، ويتألم الإنسان مايتألم ، ولاتزال تشعره الحياة أن كل مافات من العذاب إنما هو بدء العذاب ، والشقاء في تفصيله وجملته هو انحباس الفكر في معنى الألم والخوف والاضطراب ، فعالمنا طوال نظام مبارك في الليل هو الظلام والبكاء ، وعالمنا في النهار هو الضرب والألم ، وأصبحت الزنزانة كأنها رقعة أطبقت عليها غيوم السماء ، بل هي أرض اجتمعت فيها كل زلازل الأرض ، بعدما ساقوا الضحايا إلى السجن الظالم والنفي القاهر !!


أنا أذكر ذلك ، حتى لاننسي شهداء الثورة من المسلمين والأقباط ، وأن نحني الجباه سُجّداً ، ونبتدر المصابين لثماً وتقبيلاً ، أذكر ذلك لأعلن للعالم أنني مدين والحركات الإسلامية كلها مدينة لهؤلاء الشباب من المسلمين والأقباط ، وحتى لايتم قلب الحقائق ، أو عكس القضايا ، فيما نراه في الأفعال والمعاملات ، أنا فَرِح ومسرور وأنا أكتب على هذا الموقع " الأقباط المتحدون " الذي لولا الثورة ماكتبت عليه كلمة واحدة ، كما أنني أشكر الله ثم الأقباط بصفة خاصة ، والذين كانت لهم عليّ أياد بيضاء ، تخرس دونها ألسنة الشكر ، وتضيق بها جرائد الحصر ، وهذا إن أنجزه الأقباط لي بإتاحة الفرصة في مؤتمراتهم وجرائدهم ومواقعهم ، ليس ذلك أولي الهمم ولا واحدة النعم من إخواننا الأقباط ، في الوقت ذاته الذي مازال يصر الأمن وفلول النظام في الصحف والإعلام على إقصاء أمثالي - وإن كنت أقل الكوادر ممن يتم استبعادهم - الأمر الذي يجعل ثورتنا مستمرة حتى تحقق أهدافها النبيلة بالحرية الكاملة ، وعدم الإقصاء ، والعدالة الاجتماعية.

 

إنني سأظل – ومازلت - رهين مِنّة هذا الشباب المصري العظيم ، الذي صنع الثورة من أجل مصر ، لا ليشتهر عند أهلها ، بل فعل ذلك لينفعهم ، وترك ميدان التحرير بعد تنحي الطاغية في 11/2/2011.م ، فلو كان هدف الشباب هو بُعد الصيت ، ووجاهة المنصب ، وفضل المال ؛ لبقي في الميدان حتى تتم أهداف الثورة ، ولكنه آثر أن يكون كالدر في الصدف أغلى قيمة وأرفع قدراً ، وبِحَسْبِ شباب الثورة أنه أضاف إلى الحياة عظمة الأشياء العظيمة ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد ، الذي هو بين الأب والأم ، وطريق الأخ إلى أخيه يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدم بين القلبين رحمة ومودة ، وبحسب شباب الثورة المصرية أن أهدى للإنسانية هذا الفن الجميل ، الذي جعل الإنسان يكتشف نفسه ، فيقره في الحقيقة من وجوده الإنساني ؛ ويجعل الفضائل كلها تربية للقلب يكبر بها ثم يكبر ، ثم لايزال يكبر حتى يتسع لحقيقة هذه الكلمة الكبرى : الله أكبر ، وللحديث بقية عن إلهامات الثورات لبعضها وتوافق أقدارها ..