عاطف بشاي
لـ «أنطون تشيخوف» الروائى والقاص الروسى الشهير رواية قصيرة بديعة هى (عنبر رقم 6)، بطلها طبيب نفسى عجوز يعمل بمستشفى أمراض عقلية بشع، بالغ القذارة، مكتظ بأكوام النفايات التى تنبعث منها رائحة خانقة، والعنبر أقرب إلى حظيرة حيوانات به خمسة مرضى منهم «إيفان» المريض بعصاب الوسواس القهرى، دخل المستشفى بعد تفاقم حالته التى يتوهم فيها اعتقاله دونما سبب واضح، فهو لم يرتكب جرماً، ولكن أليس «فى الحبس مظاليم»؟، وبناء عليه فمن المؤكد أنه سوف يتم القبض عليه عن طريق الخطأ ويودع فى السجن، إنه يشعر أن طغيان العالم كله قد تجمع وراءه يطارده.
فى العنبر تدور حوارات فلسفية طويلة بينه وبين الطبيب المعالج «أندريه» الذى يحاول بكل جهده أن يخفف عنه آلامه النفسية التى هى انعكاس لوضعه الاجتماعى البائس وفقره ويتمه وتعطله عن العمل الذى أدى به إلى الانهيار فأودع المستشفى، يلجأ الطبيب إلى الإيحاء له أن الألم ليس سوى «تصور حى عن الألم» وعلى الإنسان أن يبذل كل إرادته لكى يغير هذا التصور ويكف عن الشكوى، عندئذ سوف يختفى الألم، فالإنسان السوى يتميز بأنه يحتقر المعاناة، ويخاصم الدهشة، ويبدو راضياً بواقعه، متكفياً مع منغصات هذا الواقع، فالتكيف هو علامة الصحة النفسية، وما أتفه تلك الأشياء الخارجية التى تقلقنا، لكن المريض «إيفان» يسخر منه ويؤكد له أن الله خلق الإنسان من لحم ودم وأعصاب، ومعنى الحياة يتركز فى الاستجابة لكل المؤثرات، إن احتقار الآلام يعنى احتقار الحياة نفسها لأن جوهر الإنسان كله يقوم على أحاسيس الجوع والبرد والإهانات والخسائر والخوف من الموت، الحياة كلها مركزة فى تلك الأحاسيس، ويمكن للإنسان أن يشقى بالحياة ويمقتها لكنه لا يحتقرها.
إن «المسيح» نفسه رغم تساميه الروحى وتأكيده أن مملكته ليست من هذا العالم «كان يستجيب للواقع وأحداثه المعاشة، فيبكى ويتألم ويحزن ويضحك ويغضب، ولم يمض للقاء الآلام وهو يصلب بابتسامه ولم يحتقر الموت، بل صلى ليخفف عنه الرب الآلام. ويواجهه بحب مردداً: إنك تحتقر الآلام، لكن لو أن أصبعك انحشرت فى الباب لصرخت بأعلى صوتك.
المفارقة فى الرواية أن المؤامرات تحاك ضد الطبيب العجوز من قبل طبيب شاب وبعض العاملين فى المستشفى.. حتى ينجحوا فى إلصاق تهمة الجنون به ويودعوه نفس العنبر فى المستشفى، فيعانى من بشاعة الحياة اليومية داخل العنبر، أى نفس معاناة المريض «إيفان» التى كان يسخر منها ويهون من شأنها، ويصارحه معترضاً فى نهاية الرواية:
«نحن ضعفاء يا عزيزى، كنت لا مبالياً، أناقش ببرود ومنطق، لكن ما إن مستنى الحياة بخشونة حتى انهرت، خارت قواى، أنت ذكى، نبيل، رضعت مع لبن الأم الانفعالات النبيلة، لكن ما إن دخلت معترك الحياة حتى تعبت ومرضت».
رغم قتامة القصة وكآبة أحداثها وجوها العام فإن «تيشخوف» ينتصر للحياة من خلال معايشة الألم لا التعالى عليه.
نقلا عن المصرى اليوم