وأتعجب كثيرا، حين تباكوا على ضياع الحضارة العربية في الأندلس، ويحضرنى سؤال: ولماذا لم يشيدوها في الجزيرة العربية'>الجزيرة العربية قبل تصديرها؟ أم أنها كانت حضارة ترانزيت من برة برة؟ وما هي يا ترى خصوصية الحضارة العربية، وما رسمها ولونها ومظاهرها في الجزيرة، والتى حملوها إلى البلاد الموطوءة؟ فمن يبنى حضارة خارج بلاده يكون قد بدأها وجربها عنده، فباب النجار «المخلع والسايب» عنوان صناعته، فلا تطمئن إلى بضاعته، وعلى أي الأحوال فالحضارة حركة تاريخ، وتفاعل مع البيئة تفاعل إيجابى، وجهد ملموس لرفع مستوى البيئة الاجتماعى والمادى، ومعرفة وعلم تراكمى، وحزمة متراصة فكرية ومادية، وقاعدة معلومات متكاملة، كلها أدوات ترفع البنيان جيلًا بعد جيل، وليست بناء دينيًا، يقوم وينهض فجأة لقيام دين جديد في منطقة قاحلة خربة، تصنعها الملائكة نيابة عنهم، ولا عيب ولا خجل أن نذكر محاسن الأجداد على قدرها ووزنها دون مبالغة، فليس هذا انتصارًا للدين، الدين رسالة محبة وسلام ورحمة وتسامح، وليس رسائل علمية في الفلك أو في الطب أو في الهندسة، ولا ضرورة لوجود صلة بينه وبين العلم، ربما يجتمعان فلا يزيده شيئا، أو ينفصلان فلا ينقص من قدره شيئا، وتبقى رسالة الدين بحجم ما يحمله من قيم سامية وسلام ومحبة للجميع، تهدى للبناء على الحق والعدل، ويكفينا فخرا أن نقدم للبشرية قيمًا سامية وفضائل وأخلاقًا إنسانية وكفى، والأغلب الأعم أنهم لم يقدموا شيئا، وإلا كانت حضارتهم شاخصة قوية، يدافع كل منهما عن الآخر، وكانت عونًا وسندًا ومعينًا لهم، تغفر لهم خطاياهم، وتمسح ما علق من ذنوب وآثام، لكن قسوة الطرد والإجلاء والإقصاء، وعنف المواجهة والانتقام، لم تكن ذا رصيد حضارى لديهم، فلما خرجوا من هذه الدول خرجوا غير ما دخلوا، كالدواعش دخلوا على عمار وخرجوا على خراب، وإياك أن تفصل هؤلاء عن هؤلاء، ذرية بعضها من بعض.
لم يقدم تيار الإسلام السياسى برامج محددة على أي مستوى من المستويات كلها، اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية، أو أبحاثًا أو دراسات أو خططًا، بل تركها على بياض، وركز اهتمامه على الشكل والمظهر فقط، على النقاب والحجاب والسواك والجلباب والحدود، المهم السيطرة على شكل وقوام الشارع فقط،، ولم يرتق هذا التيار بالناس أخلاقيا، ولم يرفع قيم المجتمع في الخير والعطاء والمحبة والسلام والأمانة، ولم يرسخ قدر ونصيب العمل والإتقان والدقة في بناء الأمم طوال فترة إعداده وسيطرته على الشارع والتفافهم حوله، فإذا بلغوا مرادهم وغاياتهم وأسسوا دولتهم، كان الناس على قدر التغيير، يرفعون ويغيرون ويسدون ويكملون ما نقص، ويستبدلون الفوضى بالنظام، والظلم بالحرية، والفساد بالأمانة، والجهل بالعلم، إلا أن رصيدهم كان مفلسا ومكشوفا، وملفات الإصلاح والتعديل بيضاء نظيفة تسر الناظرين بلا اسم أو عنوان، وظنوا أن تقوى الله فقط كفيلة بفتح أبواب الخير والرزق، والمخرج من كل الأزمات، فلما وصلوا للحكم في مصر مثلًا دون غلبة أو غزو، كنا كمن فتح بابا لقطيع من الدواب تفر من بعضها البعض في خوف وفزع، تتناطح وتتقاتل دون خلاف، وبقدرة قادر ظهر عنف المجتمع واهتزت أركانه، وتملك الرعب والخوف من الناس، وما كان يوما يتوقون إليه ويأملونه، دعوا ربهم الخلاص منه والفرار من عهدته وبيعته.
ولم يكتفوا بإفلاسهم المادى والمعنوى، وحمل عصاه ورحل في صمت وخزى، بل ناصبوا الناس العداء، وأفرطوا في اغتيال خصومهم جسديا ومعنويا، وتركوا الشارع لغول التطرف والهمجية، ولم يسكت هذا التيار عن حربه على مجتمعاتهم هنا وهناك فقط، بل ناصبوا المجتمع الدولى العداء، وأعلنوا الحرب والوصاية عليه، إلا أن المجتمعات الإسلامية متسامحة مع هذا التيار إلى حد ما، تارة من باب المجاملة والمسايسة، وتارة من الحكام لأسباب معروفة، وأخرى من باب القربى وصلة الرحم، وتارة من باب العشم، إلا أن المجتمعات العالمية الأخرى بدأت تضيق بهم، ورفعت راية التحدى والحرب، وهو رد فعل مقبول منهم، والدفاع عن حضارتهم بما أوتوا من علم وقوة وذكاء له أيضا ما يبرره، وليست المواجهة والمقاتلة طرفا بطرف لعبة الأذكياء، بل لعبة الأغبياء. القواعد الجديدة في إدارة الحروب مختلفة، أدواتها وتكلفتها وأطرافها، وميادينها وحلفاؤها وخصومها، كلها حسابات دقيقة، فإذا كان لك الحق في تهديد الغير حتى لو كانت جعجعة كدابة، فلا لوم عليه إذا استخدم الخصم أدواتك وشبابك وأموالك في الإجهاز عليك، وسخر تاريخك وتراثك وخلافاتك المذهبية أيضا، وكما قالوا: الخلاف موجود والثأر حى، والحلبة جاهزة للصراع، افتحوها، ينشغلوا عن غيرهم، فيموت من يموت، ويهلك من يهلك، ويعجز من يعجز، وليدفع الجميع ثمن غبائهم.
مجنون ومعتوه كل من يرى أنه صاحب الحقيقة المطلقة، يحارب الدنيا ويقاتلهم عليها، وله حق الوصاية والريادة دون غيره، وهو الأفضل والأقوى والأعلى، ووكله الله لاستباحة أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم لرفع شأنه وإعلاء كلمته على الأرض، فإذا اجتمعت الدنيا وتآمرت عليه، فلا يلومن إلا نفسه.
نقلا عن المصرى اليوم