الأقباط متحدون | "بورسعيد".. مثال مجتمعنا المصري الذي هوى
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٢١:٤٢ | السبت ٤ فبراير ٢٠١٢ | ٢٦طوبة ١٧٢٨ ش | العدد ٢٦٦٠ السنة السابعة
الأرشيف
شريط الأخبار

"بورسعيد".. مثال مجتمعنا المصري الذي هوى

السبت ٤ فبراير ٢٠١٢ - ٠٠: ١٢ ص +03:00 EEST
حجم الخط : - +
 

بقلم: محمود عرفات

لا أحب الكتابة عادةً عن الأحداث الآنية الحاضرة دون دراستها جيدًا حتى أتجنب منهج السبوبة الكتابية والنحتاية المهنية، لكن هنا أجد نفسي في استثناء صريح، فالموضوع لا يتعلق بأحداث الأمس 1 فبراير 2012 في "بورسعيد" بين جمهور النادي "المصري" و"الأهلي" التي أودت بحياة عشرات الضحايا، بل يتعلق بالمتغيرات التي أصابت مجتمعنا المصري بقسوة عبر أكثر من نصف قرن من حكم العسكر.. تغيرات سياسية واقتصادية ضربت مجتمعنا المصري بقسوة، وتبدت في مظاهر مؤلمة على مستوى القطر كله في مظهر العنف ضد المرأة والأقباط المسيحيين والبهائيين والعلمانيين. هذه التغيرات المتتالية لم تظهر مرة واحدة، بل تراكمت عبر مرحلتين؛ الأولى مرحلة ناصرية سحقت الوجود السياسي والتعدد الفكري وسط الناس والحزبية المحركة المؤثرة، والثانية مرحلة ساداتية/مباركية ألغت الكثير من المبادئ القليلة المتبقية المرتبطة بالفكرة الوطنية المقاومة للاستعمار والملتفة حول مشروع وطني لصالح مبادئ استهلاكية ربحية تجارية عنيفة حلت محل منظومة الأخلاق المتآكلة عمليًا، والتي كانت تحاول الصمود بيد الفكرة الوطنية المقاومة للاستعمار والمواجهة للعدوان، ثم المحاولة لصناعة سير جديد وطني يتشبث بتلابيب محاولات العهد الناصري اليائسة.. كل هذا لم يُحدث أثرًا حقيقيًا عمليًا على أرض الواقع، وظل يتصاعد في إطار سلبي. فما رأيناه نتيجة وحاصل لشئ بدأ منذ عقود وليس شيئًا هبط بالباراشوت علينا فجأة.

ماذا حدث في "بورسعيد"؟.. ماذا حدث؟
"بورسعيد" نموذج بسيط لمجتمع مصري منكوب بحكم العسكر، مثله مثل مجتمعات شرق أوسطية وأخرى لاتينية وثالثة آسيوية حكمها العسكري فتعددت ظواهرها المؤلمة المخيفة، والتي لم تنته أبدًا..
 

حين وقع انقلاب 23 يوليو 1952 كانت المنظومة الاجتماعية في "مصر" متماسكة إلى حد واضح بفعل حالة الفقر العامة التي كانت تدفع العلاقات الاجتماعية للمزيد من الارتباط متأثرة بالفقر، ثم حالة التعدد الثقافي المرتبط أولاً بالوجود الأجنبي.. كانت "بورسعيد" بالذات متشعبة في تلك الحالة، فالفقر فيها حاضر بين الأهليين، والتعدد الثقافي موجود بفعل قوات الاحتلال والأجانب من يهود وأوروبيين، ورأسمالية مرتبطة بقناة السويس بطابعها الأجنبي. فكانت "بورسعيد" حالة نموذجية لـ"مصر".. تصاعدت محاولات الضباط لإخراج "إنجلترا" من القناة ومدنها ومعسكراتها بدعم أمريكي كبير يهدف لإخراج الملاك القدامى والحلول محلهم بالشرق.. تفاعلت "بورسعيد"- كمصر كلها- مع المحاولات التي مرت بالمعاهدة عام 1954، ثم الجلاء 1956، في حالة وطنية ساعدت منظومة الأخلاق كثيرًا بفعل الالتفاف حول المشروع الوطني.
 

مع حرب "السويس" 1956 انقلبت الأوضاع في "مصر"، وبالذات في "بورسعيد"، فـ"إسرائيل" سحبت الجيش إلى "سيناء"، ثم تقدَّمت "إنجلترا" و"فرنسا" للضفة الغربية؛ فسحبت "مصر" قواتها من "سيناء" – التي إحتلتها "إسرائيل"- تمامًا لتنقلها لمقدمة "القاهرة" حتى "الإسكندرية" تخوفًا من غزو جديد على الجانب الغربي، وتركت عمليًا عبء المقاومة على ألوية مشاة محدودة في "بورسعيد" مع المقاومة الشعبية التي نظمها عمليًا جنود الجيش الذين أصلاً من "بورسعيد".. ارتفعت الحالة الوطنية والتلاحم ومنظومة الأخلاق إلى السماء بفعل المقاومة وتداعيات دخول الدبابات الأنجلو-فرنسية لـ"بورسعيد" بشكل طبيعي وسلس، فكانت الحالة العقلية والأخلاقية متميِّزة بالبارود الأوروبي، واستمرت الحالة إلى ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من "سيناء" 1957.
 

في فترة ما بين الحربين "السويس" و"الأيام الستة"، ارتبطت "بورسعيد" بحالة- غير مستندة لحقائق واقعية- من الزهو بصفتها محطمة الغزو الأوروبي، وكذلك بحضورها الوطني في خطابات وأعياد "مصر" الرسمية، كذلك المشروع الوطني الناصري العروبي الذي حمل كثيرًا من الذهنيات والمعنويات أكبر بمراحل من مضمون عملي بصور ساندت المنظومة الأخلاقية كثيرًا ومثلت دعامة وعلاج سريعين لأي مشكلات أخلاقية واجتماعية، فكانت بمثابة منظومة داعمة في "بورسعيد".
 

في فترة ما بين حرب الأيام الستة ويوم "كيبور"، لم تكن "بورسعيد" إلا مدينة أشباح مُهجَّرة إلى بلاد أخرى بشكل صنع البداية الحقيقية للانهيار الاجتماعي الذي ضرب سكان المحافظة.. هؤلاء المُهجرون عانوا من شظف العيش ورداءة الحياة بعكس الدعاية الرسمية التي جعلت منهم ضيوفًا مرحَّب بهم. كان هؤلاء السكان يعانون لأكثر من سبع سنوات من الفقر والضيق والتهديد الدائم للحياة وانعدام الاستقرار.. كانت البيئة التي عايشوها تختلف جذريًا عنهم، فهي تعايشت حتى نهاية حرب "السويس" مع الحالة الوطنية ثم انتقلت "مصر"- باستثناء مدن القناة وبالذات "بورسعيد"- إلى مرحلة مشروع وطني ومشكلات اجتماعية عديدة، وحين جاء المُهجَّرون إلى المدن الداخلية حصدوا نتاج تلك السنوات وما بين الحربين، واكتسبوا أنماط وأخلاقيات غير معتادة أو مألوفة، بالإضافة للفقر الشديد المرتبط بهم، فكانت الأرضية مُهيأة لما سيلي هذا.
 

في فترة ما بين 1974 ونهاية الثمانينيات، انتقل المُهجَّرون لـ"بورسعيد" ومعهم وافدون جُدد بطبائع وأفكار جديدة، بعد تغييرات سبق الإشارة لها.. هنا بدأ الانفتاح الاقتصادي ونظام المدينة الحرة وفكرة السوق المفتوح، لتنتقل البلاد والعباد كليةً من الفقر في أرض المهجر للغنى الكبير سهل التحقيق في المحافظة، ومن المبادئ الوطنية وفكرة الكفاح إلى مبادئ الثروة والمال الوفير المرتبط بجرائم التهريب والغش بشكل أكسب المحافظة سمعة لم تكن خافية بل أُلصقت بهم –لأسس حقيقية- وباتت جزءًا من طابعهم الكامل المولد لتغيرات اجتماعية كُبرى لم تتوقف بل تزايدت واشتدت، ولم تتغير الحقائق على الأرض بل كَبُرت بفعل منهج "السادات" المولِّد للتغيرات الكبرى الثروية بدلاً من الثورية فتولدت الأنماط التي نراها اليوم جزئياً، والتي جنيناها، لكن لم تكن فقط هذه الحالة الاجتماعية وليدة الانتقال البيئي والثروي الكبيرين، بل تلتها مرحلة أشد خطورة.
 

منذ نهاية الثمانينيات إلى اليوم تبدَّلت الأحوال، فالمنطقة الحرة تلاشت، والفقر عاد، والإفلاس ضرب المدينة.. وقد كنت شاهدًا بنفسي على هذا في أكثر من مرة رأيت محالاً تجارية مغلقة لعدم قدرة أصحابها على دفع أجور العاملين وفاتورة الكهرباء!.. وبالعودة لحديث النائب الحالي "البدري فرغلي" عن المدينة- قبل الثورة- نجد أن المدينة تحوَّلت لبلد بلطجة ودعارة حسب وصفه.. الانهيار المالي الكبير للمدينة أسَّس لحالات البلطجة والقتل والدعارة، وجذور الانفتاح المرتبط باللاتخطيط والتفكك الاجتماعي وجذور أقدم تعود للتهجير.. كل هذا صنع ما رأيناه في 2 فبراير 2012.
 


لم تكن أحداث إستاد "بورسعيد" وليدة الأمس، فالمجتمعات لا تتغير بالباراشوت بل بسلسلة طويلة من التراكمات الاقتصادية والسياسية التي تصنع تغييرات اجتماعية كبرى. كانت أحداث 2 فبراير مأساة نراها ماثلة متحركة بعد أن راقبنا صنعها طوال عقود طويلة، والدولة صامتة ساكنة مستميتة في منهج لا ينظر للتغيير الاجتماعي بالمرة..

"بورسعيد" جزء من "مصر" تأثر بها وأثَّر فيها.. لا تنسوا هذا.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :