عشرة أفلام، فى تصورى، تتجلى فيها إمكانيات وأسلوب المخرج شريف عرفة، الذى يكرمه مهرجان القاهرة السينمائى هذا العام بمنحه جائزة فاتن حمامة التقديرية: «الدرجة الثالثة»، «سمع هس»، «اللعب مع الكبار»، «طيور الظلام»، «اضحك الصورة تطلع حلوة»، «عبود على الحدود»، «الناظر»، «الجزيرة 1»، وأخيراً «الممر».

 
من الفانتازيا الكوميدية والكوميديا الغنائية التى ميزت أعماله الأولى مع السيناريست ماهر عواد، إلى الكوميديا السياسية مع وحيد حامد وعادل إمام، إلى الدراما الاجتماعية الشبيهة بأعمال عاطف الطيب ورفاقه من مخرجى ما اصطلح على تسميته بـ«الواقعية الجديدة»، إلى الكوميديا الصاخبة مع المضحكين الجدد، إلى الأكشن والبوليسى، وحتى الحربى.. أثبت شريف عرفة مقدرته على إخراج معظم «الأنواع الفنية» التى تعرفها السينما المصرية، وأجاد فى صُنع بعض هذه الأنواع حتى وصل بها إلى أعلى مستوى عرفته السينما المصرية، وبالتحديد الكوميديا، والكوميديا السياسية والأكشن والحربى.
 
بدأ شريف عرفة حياته الفنية عام 1987 بفيلم «الأقزام قادمون»، وهو عمل فانتازى غريب لم يستسغه كثيراً جمهور تلك الفترة. بعدها قدّم «الدرجة الثالثة» الذى شارك فى بطولته اثنان من أكبر ممثلى السينما العربية، وهما سعاد حسنى وأحمد زكى، ومرة أخرى لم يستسغ جمهور سينما الثمانينات رمزيته، تلاهما بعمل فانتازى آخر هو «يا مهلبية يا» الذى كان أكثر حظاً، ثم قدم عملاً موسيقياً بديعاً هو «سمع هس»، للأسف أيضاً فشل تجارياً.
 
أعتقد أن مشاكل هذه الأفلام لم تكن فقط قلة وعى الجمهور، ولكن أيضاً ضعفها التقنى على مستوى الصورة والصوت فى فترة شهدت فيها «صناعة» السينما ودور العرض السينمائى انهياراً ليس له مثيل. هذه الأفلام عانت أيضاً من ضعف اللغة السينمائية الذى نجده عند مخرجى الثمانينات بشكل عام، رغم ما يقال عن فنية وجدة وجدية أعمالهم، لكن الحقيقة أنها على المستوى الحرفى أقل بكثير من أعمال مخرجين أقدم مثل يوسف شاهين أو كمال الشيخ أو صلاح أبوسيف أو بركات أو حتى حسن الإمام وحسام الدين مصطفى.
 
باختصار، أعتقد أن طموح شريف عرفة وماهر عواد كان أكبر من إمكانيات صناعة سينما تنهار وتحتضر، خاصة أن الأنواع الفانتازية والموسيقية التى قدّموها تتسم بطبيعتها بتقنيات عالية، بل مبهرة بالضرورة.
 
بعد هذه المجموعة، حدثت نقلة نوعية فى أعمال شريف عرفة مع وحيد حامد وعادل إمام. وعلى العكس تماماً يعرف هذان الاثنان ما يريده الرأى العام، ويعرفان تماماً كيف يجذبان ويخاطبان الجمهور. وفوق هذا ضمنت شعبية عادل إمام إمكانيات إنتاجية وتقنية لم يكن لها أن تتوافر فى أعمال «عرفة» السابقة.
 
قدم الثلاثى «عرفة، حامد، إمام» خمسة أفلام متتالية من «اللعب مع الكبار»، 1992، وحتى «النوم فى العسل»، 1996، حيث اتسمت بهجائها السياسى الساخر وجرأتها ومزجها النادر بين جدية الموضوع وفكاهية المعالجة.
 
هذه الأفلام حققت أيضاً شيئاً نادراً، فى كونها ضربت على الأوتار الحساسة كلها، الفساد والإرهاب وصعود الإسلام السياسى والمعاناة الاجتماعية والجنسية، وحققت نجاحات تجارية وإشادات نقدية وإعلامية.
 
مع نهاية التسعينات ودّعت السينما المصرية كل أنواعها الفنية، باستثناء نوع واحد فقط هو الكوميديا، والتقط شريف عرفة الخيط، بعد أن أصبح خبيراً بأذواق المشاهدين الآن، وقدم ثلاثة أعمال لواحد من ألمع المضحكين الجدد، وهو علاء ولى الدين، قبل أن يموت فجأة فى عز شبابه ونجاحه.
 
لا شك أن «عبود»، و«الناظر»، من أفضل إنتاجات موجة المضحكين الجدد. وأهم ما يميزهما أن الكوميديا فيهما ليست مجانية، لكنها كوميديا ذات مضمون، تحمل بعضاً من الهجاء السياسى والاجتماعى الذى حملته أعمال شريف عرفة السابقة، لكن بشكل أكثر صخباً ومرحاً، وأقل مباشرة وخطابية.
 
بعد أن استهلكت السينما المصرية نفسها ضحكاً.. جاء زمن الأكشن، والتقط «عرفة» الخيط مرة أخرى، ليقدم مع أكبر نجوم هذه الموجة، أحمد السقا، فيلمى «مافيا» و«الجزيرة».
«الجزيرة» تحديداً واحد من أفضل أفلام الأكشن فى تاريخ السينما المصرية، لأن الأكشن فيه نابع من البيئة المصرية تماماً، ويعتمد على فنون القتال المصرية، التحطيب، كما أن الأكشن فيه ليس مجانياً، لكنه أكشن ذو مضمون.. ذلك أن الفيلم المقتبس من أحداث وشخصيات واقعية يعالج قضايا اجتماعية وسياسية حقيقية، منها العلاقة بين بعض المجرمين والسلطة، وانتشار العنف والجريمة المنظمة.
 
ما بين «مافيا»، 2002، و«الجزيرة»، 2007، قدم شريف عرفة عملين آخرين مختلفين: السيرة الشخصية فى «حليم» والكوميديا فى «فول الصين العظيم»، ومنذ نجاح «الجزيرة» الباهر قدّم عدة أعمال متوسطة أو متواضعة النجاح، من «ولاد العم» و«إكس لارج» إلى «الجزيرة 2» و«الكنز» بجزأيه، قبل أن يدخل مغامرة «الممر».
 
الأفلام الحربية فى السينما المصرية سيئة الحظ والصنع، إلا نادراً، وهى تحتاج إلى إمكانيات مادية وبشرية يصعب أن تتوافر، خاصة مع الظروف الصعبة التى تعانى منها الصناعة، لكن «الممر» تجاوز هذه الصعاب وتوافرت النوايا والإمكانيات، ليخرج بشكل مشرّف، ورغم الملاحظات الفنية العديدة التى يمكن أن تُؤخذ عليه، إلا أنه حقّق نجاحاً تجارياً وشعبية كبيرة، كما أثبت أنه فى ما يتعلق بالإمكانيات، يمكن للسينما المصرية أن تصنع أفلاماً حربية «معقولة».
 
لا شك أن شريف عرفة مخرج قدير، يستحق التقدير، لكن لا بد أن نقر أيضاً بأن هناك نوعاً سينمائياً لم يفكر فى الاقتراب منه حتى الآن، وهو الفيلم «الفنى» الذى يحمل روح وعقل صانعه، ويمكنه أن يعرض فى المهرجانات السينمائية وفى بلاد أخرى، وأن يرضى العيون والعقول معاً.
 
لقد اهتم شريف عرفة بمعرفة وإرضاء جمهوره أكثر مما اهتم بسبر أغوار نفسه، وتكوين رؤية فنية خاصة، للمجتمع والعالم، وتطويع السينما ولغتها، لا من أجل قص الحكايات أو إثارة مشاعر المشاهدين، وكن من أجل التعبير عن هذه الرؤية الخاصة.
 
والآن وهو على وشك دخول عامه الستين، أتمنى أن يعثر شريف عرفة على هذا «الكنز»!