يوسف سيدهم
في ذكري مرور 150 عاما علي افتتاح قناة السويس كتبت الأسبوع الماضي مستعرضا ملامح من تاريخ القناة وارتباطها بالحملة الفرنسية علي مصر التي نبعت منها فكرة حفر القناة ضمن حشد من الأفكار والإنجازات التي عكست ما يطلق عليه الولع الفرنسي بالحضارة المصرية القديمة.. وليس أدل علي ذلك من أن التاريخ يسجل أن نابليون بونابرت وهو يعد العدة لإطلاق حملته العسكرية علي الولايات العثمانية في مصر والشام بهدف الدفاع عن المصالح الفرنسية حرص علي أن تصاحب الحملة مجموعة كبيرة من العلماء في مختلف التخصصات, وهؤلاء العلماء عكفوا علي رصد وتوثيق كل ما رأوه علي أرض مصر من حياة المصريين أو من معالم أثرية علاوة علي رسم أول خريطة دقيقة للقطر المصري.. وتوالت بعد ذلك الاكتشافات المدوية التي أزاحت الغموض عن الحضارة المصرية القديمة وعلي رأسها فك شامبليون لأسرار حجر رشيد الذي أدي إلي فك رموز اللغة الهيروغليفية وفتح الباب علي مصراعيه لقراءة التاريخ والنصوص المرتبطة بتلك الحضارة علي معابدها وتماثيلها وآثارها, الأمر الذي فجر الولع والانبهار الفرنسي ومن بعده الأوروبي بمصر وحضارتها.
وأعود إلي القضية الجدلية التي ختمت بها مقالي الأسبوع الماضي: هل الحملة الفرنسية علي مصر كانت حملة استعمارية.. أم حملة تنويرية؟.. ولفض هذه الإشكالية أقول: لست غافلا عن أن الحملة بدأت بعدوان استعماري (عام 1798) قاومه المصريون طيلة مكوثه علي أرض مصر حتي اضطر نابليون إلي الانسحاب بجيشه لمجابهة اضطرابات سياسية تفجرت في فرنسا تاركا بعضا من جنوده وكل علمائه الذين استحضرهم مع حملته (عام 1801).. فماذا حدث بعد ذلك؟.. توالت اكتشافات وإنجازات أولئك العلماء بشكل هائل حتي تضاءل أمامها الجانب الاستعماري للحملة وسطع بريق الجانب التنويري.. وهذه أهم ملامحه:
** مهدت الحملة لتفكيك النظم الإدارية القديمة التي كانت قائمة في مصر العثمانية, وعرف المصريون بعض الأنظمة الإدارية عن الفرنسيين ومن بينها سجلات المواليد والوفيات, وكذلك نظام المحاكمات الفرنسي (الجدير بالذكر أن الأسس التشريعية للقانون المصري نبعت من القانون الفرنسي).
** ساهمت مجموعة العلماء في تأسيس المجمع العلمي المصري علي غرار المجمع العلمي الفرنسي وذلك لدراسة مصر دراسة علمية دقيقة وكان يضم أقساما للرياضيات, والفيزياء, والاقتصاد السياسي, والآداب والفنون الجميلة, وكان نشاط هذا المجمع في مجال الدراسات والأبحاث ملحوظا وغير مسبوق, وبالرغم من مروره بفترات من التوقف وانحسار النشاط إلا أنه كان يعود للتوهج والحيوية, وهو الصرح الذي يعد بمثابة ذاكرة مصر وأرشيفها التاريخي علي مدي عمره الذي يمتد عبر 221 عاما (1798-2019).
** جلبت الحملة معها أول مطبعة إلي مصر وبفضلها عرفت مصر الطباعة وما في ذلك من نشر الكتابات والوثائق والرسوم التي سجلها باحثو وعلماء الحملة عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة وواقع الحياة المصرية وجغرافية مصر وتأتي درة تلك الجهود في موسوعة وصف مصر التي تظل إلي يومنا هذا من أعظم وأقيم المراجع عن مصر القديمة.
** تأسيس مصلحة الآثار المصرية لتعني بالكشوفات الأثرية وتنمية المواقع الأثرية القديمة وتسجيلها تبعا للحقب التاريخية المتعاقبة, علاوة علي تجميع قطع الآثار وحمايتها داخل المتاحف والمزارات ليتعرف المصريون من خلالها علي تاريخهم وحضارتهم ويقدموها لسائر ضيوفهم من بلاد العالم.
** تسببت الحملة في حدوث صدمة حضارية هائلة بإلقائها الضوء علي الاختلاف الحضاري الكبير بين الشرق والغرب, فبينما كشفت للغرب عظمة الحضارة المصرية القديمة وفجرت من جديد الولع الفرنسي بمصر, في الوقت ذاته لفتت أنظار المصريين إليوأركان التقدم الغربي فكانت باكورة التبادل الثقافي والعلمي بين مصر وفرنسا الذي أدي إلي موجات البعثات العلمية للمصريين الذين سافروا إلي فرنسا وعادوا إلي مصر ليحملوا مشاعل التنوير في عصر محمد علي وما تلاه من عقود.
*** هذه بعض ملامح وإنجازات الحملة الفرنسية علي مصر فيما يتجاوز وجهها الاستعماري إلي أثرها التقدمي والتنويري, والذي بفضله نفضت مصر عن نفسها غبار العصر العثماني لتظهر عظمة وأصالة حضارتها القديمة, وأيضا لتصحو متنبهة للفجوة التي تفصلها عن التقدم الغربي فتتقدم للتواصل معه لتخطو نحو الحداثة والنهوض العلمي.. ولعل الثقل الواضح للأثر التنويري للحملة الفرنسية علي مصر هو ما يفسر عمق وعراقة العلاقات المصرية الفرنسية منذ وصول الحملة إلي مصر وحتي يومنا هذا وتتويج ذلك الإرث العظيم بالاحتفال بعام 2019 باعتباره عام مصر- فرنسا.