كتب : أحمد صبح

كان يوم 11/2/2011.م يوماً مشهوداً في تاريخ مصر ، حيث شهد تنحى الديكتاتور عن منصبه في رئاسة الدولة المصرية ، وهو ذات اليوم الذي انتصرت فيه الثورة الإيرانية ، وأصبحت مكللة بتيجان النصر ، بعد عصر الطاغية شاه إيران محمد رضا بهلوي وقد كان هذا الانتصار في كتابه المرقوم يوم 11/2/1979.م ، هذا الارتباط التاريخي بين الثورات ، أظهر أن يد الله تعمل في الخفاء وبطريقتها الخاصة ، مما يترك عند المظلومين في كل مكان أملاً وندى ، ونبراساً وهدى ، وظلاً وظليلاً في الهاجرة ، وأن الحق هو الأصل الراسخ ، والعدل الخالص ، وهو روح كل نظام ، وحياة كل كمال ، وقوام كل خير في الأرض والسماء ، يهتدي إليه العقل السليم ، ويؤيده العلم الصحيح ، ويتأدى إليه النظر القويم ، ويرتاح إليه القلب ، ويطمئن له الضمير .

وإن تعجب فعجب أنه في اليوم الذي غادرت فيه تونس طائرة زين العابدين بن على إلى غير رجعة ، هو ذات اليوم الذي غادرت فيه طائرة شاه إيران الدولة الإيرانية ؛ حيث غادر ديكتاتور تونس في 18/1/2011.م ، وهو ذات اليوم الذي غادر فيه طاغية إيران 18/1/1979.م ، ليعطي ذلك درساً في التاريخ أن الباطل هو الفساد الزائل ، والزور الحائل ، والشر المستطير ، لأنه علة كل متداع ، وسبب كل فتنة ، ينفر منه العقل ، ويدحضه العلم ، ويتقزز منه النظر ، وهذه حكمة الله لتذوق شيعة الباطل وبال أمرها ، فترجع إلى هداها عن بينة أو تهلك عن بينة ، وتكون في ترطمها في باطلها وتورطها في آثاره الحانقة بها حجة على نفسها ، وعبرة لغيرها من الجماعات البشرية ، وقد كان ؛ فقُطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .

لقد ظن الناس أن الشعب المصري لا تاريخ له ، عندما سحقت كليات الدولة قوى المجتمع المدني وهمشتها ، كذلك تفعل جميع الديكتاتوريات في العالم ، مما حوّل السياسات الاجتماعية في البلاد المقهورة إلى سياسات أمنويّة تصب في خانة حماية المجتمع من قوى الارهاب والتطرف ، لذلك كانت الأنظمة المستبدة مصنعاً لتفريغ الأكاذيب واختلاق الإشاعات ، ونكث العهود ، والتحلل من الالتزامات ، وهذا الاحتقار من الأنظمة المستبدة لشعوبها ، التي ترى أنه من الواجب عليها إخفاء الحقيقة ؛ فأصبح الكذب فناً محترماً ، حتى أدى ذلك إلى إنهاك الشعوب ، وإرهاق قدرتها على الصبر ، وفقدان مناعتها إزاء الحقيقة والصدق ، مما جعل الناس يعيشون في جو من اليأس ، الأمر الذي أدى إلى ظهور تشوهات فكرية لم تعد آياتها خافية على أحد ، نراها متمثلة في تنامي الجسم ، وضمور العقل .

وبالجملة فإن الأنظمة المستبدة تزوّر لك ، وتلبّس عليك ، فما فيها من لون عندك تعيبه إلا هو عندها تحت لون يزينها ، ولارذيلة تقبحها إلا هى في معنى فضيلة تجملها ، حتى أفسدت على الشعوب الشعور والوجدان ؛ فجاءت الثورة على هذه الأنظمة ، والتي هي السلوك الإنساني المنظم الهادف ، والذي يعطي نماذج ملهمة للآخرين ، ففي تونس بدأ شعار إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ، وقد كنا في فترة من الفترات نصف قائل هذا البيت بالكفر لأن القدر لايتم إجباره على الإجابة ، ولكن نضج فكرنا فالزمن كان جزءاً من العلاج حيث أن التغيير لابد أن يكون من الناس ، حتى يغيّر الله لهم " إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، وقد كان ؛ فخرج الشعب التونسي ضد الديكتاتور بن على واستجاب القدر لهم ، ومن اللطائف أن قائل هذا البيت الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي ، فهو ينطبق على الشعب التونسي بعموم اللفظ وخصوص السبب ، وهذه من المفارقات العجيبة ، حيث أن الثمرة جناها الشعب التونسي ، لأنه أول من غرس شجرتها على يد شاعره ، وانتقل الإلهام بعد ذلك إلى الشعب المصري العظيم الثائر ، وأخذت مقولة " الشعب يريد إسقاط النظام " تتردد في مصر وليبيا ، واليمن والبحرين وسوريا ، وهو شعار يعبر عن الروح الجمعية للشعوب بأتم الكلمة ؛ لأن الفعل ثار ويثور وحتى المصدر ثورة يدل على ظهور فعل الإنسان واحتياجه في هذا الفعل للآخر ، لأنه يقوم بسلوك جمعي ومن خلال الآخرين ، فهي عملية إبداع بحتة ، لذلك يصحبها إنتاج فكري يُعيد صناعة القيم والسلوكيات ، ويعطي معنى جديداً للأشياء .
والثورات التي تقوم في ربيعها العربي في هذه الأيام يلهم بعضها بعضاً ، حيث لا علاقة لها بالدين أو المذهب ، إلا من حيث الأصل العام ، وهو الثورة على الظلم والاستبداد ، فالناس تجمعوا من أجل أهداف جماعية محددة ، والدفاع عن الوطن ، يعني أنه بعد الانتصار الكبير يكون للجميع وليس لمجموعة دون أخرى ، أو مجموعة من الدرجة الأولى وأخرى من الدرجة العاشرة ، فإذا كان الهدف هو إرجاع الثروات الوطنية ، فلا تستفيد منه جماعة دون أخرى ، وإذا كان الهدف هو حرية التعبير فلا يحق لمجموعة أن تقول كل شيء ، وأخرى لا يحق لها شيء ، كل ذلك نتيجة لهوى النفس وسيطرته على الفعل والحركة ، لذلك فإن الثورات الكبرى هى مجرد سلوكيات لبني الإنسان - إن لم تسر في طريقها الصحيح - تبدأ بالطموح إلى البناء ثم تنتهي بالهدم ، نتصور أنها تعمّر لكنها في حقيقتها تدمر ، فإذا كانت سيادة الأفكار الشخصية على المجتمعية ، فإنها تسبح بعيداً فتبني مدينة على حساب جماجم ودماء الشعوب !!
وإذا كانت الثورة تحمل أفكاراً تغييرية فصاحبها ليس ثورياً بل انتهازياً إذا كانت أفكاره لا تهدف إلى المصلحة العامة ، وإذا كان القائمون بالثورة ينوون بالسلوك التغييري سيادة أفكار معينة ولو بالقوة فهم استبداديون ، وإذا كانوا ينوون إقامتها بالسلم والحوار حتى لو كانت خاطئة ويقبلون الرأي الآخر فهم ديمقراطيون !!

إن الذين يقومون بالثورات دائماً هم من الخواص ، لذلك فإن قرارهم في الوقت المناسب ورؤيتهم الصائبة للأمور ، وتجاوزهم عن الدنيا في اللحظة المناسبة ، وموقفهم في سبيل الله ووطنهم في اللحظة المواتية ، كل ذلك هو الذي استنقذ الوطن والتاريخ وصان القيم والمباديء ، فتحية للثوار في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا ، ومن قبل ذلك في إيران على يد الإمام الخميني ، وإنما ذكرت ذلك الارتباط التاريخي لأنها ثورات شعوب ، قامت ضد الديكتاتور الظالم المستبد .

لذلك فإن الخواص] الثوار [ قرارهم المناسب إذا فات أوانه ، فسوف ينتهي الأمر إلى ما لا يحمد عقباه ، ففي عام 1978.م أعلن شاه إيران الأحكام العرفية في إيران ، لكن الإمام الخميني دعا الناس للنزول إلى الشوارع ، ولولم يتم اتخاذ هذا القرار في تلك اللحظة المناسبة ، لكان شاه إيران متربعاً على الحكم إلى الآن ، ولولم ينزل الناس إلى الشوارع حين إعلان الأحكام العرفية ولزموا منازلهم ، لتم القضاء على كل شيء ولما نجحت الثورة في إيران .

وفي عام 1992.م نجحت جبهة الإنقاذ في الجزائر باكتساح في الانتخابات ، ولكن الجيش انقلب على إرادة الشعب ، فلو أن قادة الجبهة دعوا الناس للنزول للشوارع – وقد كان الجيش ضعيفاً آنئذ - لانتصرت إرادة الشعب ، ولكن حب الدنيا عند بعض قادة الجبهة ، والحرص على بعض المناصب لدى آخرين ، لم يؤد إلى اتخاذ مثل هذا القرار ، الأمر الذي أدى إلى إيداع قيادة الجبهة في السجون ، والالتفاف على إرادة الشعب ولو أن الخواص في الثورة المصرية لم ينزلوا إلى الشوارع في 25 يناير 2011.م وفي أعقابها لأدى ذلك إلى بقاء الديكتاتور في منصبه إلى الآن ، ولكن الخواص من فئات الشعب نزلوا في الوقت المناسب لمساندة الشباب العظيم الذي بدأ هذه الثورة ، الأمر الذي نهنأ به الآن ، فأكتب غير خائف من تبعات قلمي بعدما ذقت الهوان أعواماً ، لولا الله ثم هذا الشباب المصري بمسلميه وأقباطه ، والذين لهم فضل علينا جميعاً .

إن حركة الخواص لايسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية ، لأنها من أندر حركات التاريخ في باب الدعاوى السياسية التي لا تتكرر كل يوم ، ولايقوم بها كل رجل ، ولا يأتي الصواب فيها إن أصابت من نحو واحد ينحصر القول فيه ، ولايأتي الخطأ فيها – إن أخطأت - من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه ، فحركة الخواص أثناء تغيّر مجرى التاريخ لا يأتي بها إلا رجال خلقوا لأمثالها ، ولاتخطر لغيرهم على بال ، لأنها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق ، إن حركة الشباب في الثورات هي حركة فذة يقدم عليها رجال أفذاذ من اللغو أن ندنيهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن ، وعلى غير هذه الوتيرة ، لأنهم يحسون ويفهمون غير الذي نحسه ونفهمه ونطلبه من أولئك الرجال ، فهى ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة ، ولا صفقة مساوم من مساومي التجارة ، ولا وسيلة متوسل ينزل على حكم الدنيا أو ننزل الدنيا على حكمه ، ولكنها وسيلة من يدين نفسه ، ويدين الدنيا برأي من الآراء هو مؤمن به ومؤمن بوجوب إيمان الناس به دون غيره ، فإن قبلته الدنيا قبلها وإن لم تقبله فسيان عنده فواته بالموت ، أو فواته بالحياة ، بل لعل فواته بالموت أشهى إليه .

هي حركة لا تقاس إذن بمقياس المغامرات ولا الصفقات ، ولكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر ولا يستعاد على الطلب من كل رجل أو في كل أوان ، هكذا يجب أن نتعامل مع الثوار أنهم قد يفهمون ما لانفهمه ويحسون ما لانحسه ، فقد جعلهم الله ستاراً لقدرته في إزهاق الباطل ، و إتيان الحق ، وجلب المصالح ودرء المضار والمفاسد ، هؤلاء هم الذين غيروا من أنفسهم في الوقت المناسب ، فتغير وجه التاريخ في نفس اللحظة .
إنهم الخواص من الأمة ، فهم قادتها في هذه اللحظات التاريخية ، هم الأسود والقادة لا الوعول والجبناء ، وأنا أتصور أن أسداً يقود مجموعة من الوعول ، ولا أتصور أن وعلاً يقود مجموعة من الأسود ، إن الخواص الذين يغيرون من مجرى التاريخ لابد أن يفضلوا المباديء على المصالح ، إلا أننا نرى بعض الخواص يفضلون المصالح على المباديء ، الأمر الذي يجعل التاريخ يتمرغ في مهاوي الضياع ، بل يجعل الثوار إذا فشلوا يساقون إلى مسالخ الذبح والسجون والمعتقلات ، وإذا قام الخواص بدورهم فسوف نجد هذا الارتباط بين الأرض والسماء ، سوف نجد يد الله في كل حادث ، وفي كل أمر ، وسنجد الشعوب تعيش حرة ، هادئة النفس ، مطمئنة السريرة ، قريرة الضمير .

أما أولئك الذين يقولون للثوار " لا مقام لكم فارجعوا " ، فقد آثروا القنديل الخافت الذي في أيديهم على الكوكب اللامع في السماء ، لا لأنهم لا يرون الكوكب اللامع في السماء ، بل لأنهم يرون القنديل والكوكب فيعلمون أن هذا قريب ، وأن ذلك جد بعيد !