عادل نعمان
وكأن علماء ومشايخ وقراء قرآن مصر، فى الستينات والسبعينات من القرن الماضى وما قبلهما، لمّا تركوا بناتهم ونساءهم بغير حجاب كانوا على جهالة وضلالة، وكأن الملايين من نساء مصر السافرات فى كل أفلامنا القديمة والحفلات العامة والشوارع والجامعات والمدارس والمعاهد والبيوت والسينما والمسرح والأوبرا والنوادى والحدائق العامة والشواطئ لمئات السنين، كلهن كانوا على عماية وغواية، وكأن آباءنا وأجدادنا وأعمامنا وأخوالنا كلهم تعلموا دينهم على أيدى مشايخ على صراط غير صراط الذين أنعم الله عليهم، وكانوا أقرب إلى المغضوب عليهم أو الضالين، وكأن ديننا الذى هو عصمة أمرنا، كنا نخوض فيه ونلعب حتى جاءونا باليقين، وأتساءل ما مصير جداتنا وخالاتنا وعماتنا وأمهاتنا وأخواتنا وزميلاتنا فى الجامعة وكل المسلمات فى كل بقاع الأرض المتبرجات السافرات؟
تابعت منذ يومين حواراً حول الحجاب على قناة الجزيرة، ثلاثة مشايخ أصحاب فكر واحد، سلفيى الهوى بامتياز، حراس الدين والعقيدة ليس غيرهم، تبادلوا الحوار فيما بينهم، اقتسموه كرغيف العيش فى سهولة ويسر، ولم يكن للحوار طعم أو مذاق، فلم يكن بينهم ند أو خصم مخالف لهم فى الرأى يعارض رأياً برأى، أو يقارع حجة بحجة، بل كان حوار طرشان أو حديث إملاء باهت، وصالوا وجالوا فى حلبة الصراع بلا منافس أو مبارز، دون طحين يُذكر، واتهاماتهم لأصحاب الرأى الآخر بالعمالة لجهات تحارب دين الله وثوابت الإيمان، ومحاربة الإسلام والمسلمين متداولة فى سلاسة وليونة، وحديثهم المصطنع والمجهز عن عفة المرأة وشرفها وطهارتها من وراء الحجاب، وأدبها وبراءتها وحيائها من داخله معاد ومكرر، ووعيدهم للسافرات الملعونات إلى يوم الدين كئيب ومزيف، ثم جاءوا إلينا بفتواهم ورخصتهم للمتحرشين «كل من تبرجت وكشفت شعرها، فقد أعطت رخصة للمتحرشين للتربص والتحرش بها»، فجزاهم الله شر كل المتحرشين بالنساء إلى يوم الدين، وأعطانا أحدهم هذا المثال التوضيحى، الذى يردده كل المشايخ على مسامعنا، وهو على ألسنة كل هؤلاء القوم، أن الذباب والحشرات لا تحط ولا تدنس إلا الحلوى المكشوفة والمتبرجة، فإذا صانها صاحبها بتغطيتها وتغليفها، عفت وسلمت وأمنت، فإذا هل عليها وطرق بابها صاحب المقام الرفيع، فض غشاءها بيديه، وسعد بالتهامها قطعة وراء الأخرى، مطمئناً خاطره ويقينه بأن حلاوته لم يلمسها ذباب من قبل، ولم تقربها حشرة من الحشرات. وليس لدينا ما نرد على هؤلاء، فقد مللنا حديثاً معهم على هذا النحو، وأول مخالفة لهؤلاء هى إطلاق الاتهامات دون بينة أو دليل، وهى مخالفة شرعية وفقاً للآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»، ولا يجوز الاتهام على المشاع، حتى لا يظن الناس السوء بالجميع، ويجب أن يكون الاتهام محدداً لشخص أو أشخاص بأعينهم، وعليهم البينة والدليل فيما يزعمون أو يتهمون، هذه واحدة وسقطة تستوجب الإصلاح، أما نكتة الذباب، فهى من النكت المضحكة، وللذباب نصيب كبير مع المسلمين، وأتساءل: لماذا لا يحط الذباب على الحلوى المكشوفة ويدنسها وينجسها إلا فى بلاد المسلمين؟ فهذا الكائن قد برئت منه بلدان العالم المتحضر النظيف، ولم يعد للذباب مكان فى بلاد النظافة والطهارة والصفاء، وأصبح يسرح ويعربد حول البرك والمستنقعات، فهى بيئته الخصبة، وبيته الذى يؤويه، وحاضنته التى يتكاثر فيها، ووحله الذى يتوالد فيه، ويراه حلوى طيبة الطعم، ونحن نراه نتناً آسناً عفناً نسد عنه العيون والأنوف.
وأخيراً: هل صان الحجاب عفة النساء؟ وهل حفظ الحجاب النساء من تطفل وأذى الرجال؟ وهل غض المسلمون أبصارهم عن المحجبات والمنتقبات؟ وهل نجّاها وحفظها من التحرش فى الشارع وفى العمل؟ وهل ارتقت الأخلاق أم تلفت؟ وهل أجاد الناس أعمالهم أم ساءت؟ وهل ترفع الناس عن الدنايا أم سقطوا فى أوحالها؟ وهل عاد حياء الناس كما كان من قبل أم انحدر وخرب؟ وأقر وأعترف بأن كل القيم والمثل قد تدهورت، والمروءة والشهامة قد تحجبت، إلا من رحم ربى فى القليل. وأتساءل هل كل المحجبات فى بلادى على قناعة بضرورته وفرضه؟ وأقول دون خجل، قطاع على اقتناع، وقطاع مجبر اجتماعياً وأسرياً وذكورياً، وقطاع ليس بالقليل مجبر اقتصادياً، وأعتقد كل نوع من هذا الإجبار واضح ومفهوم، دعونا نلتفت لقضايا أكبر من الحجاب، فليس شاغلنا بعد اليوم، فهو خاص بالنساء فمن رغبت فى خلعه فهى حرة دون خوف على مصيرها أو حسابها، فإن الله يحاسب الناس على أعمالهم وصدقهم وشرفهم، وليس على قطعة من القماش، شاغلنا يجب أن يكون فى العمل والعلم والتعليم والنظافة والاهتمام بأخلاق أولادنا، وتنمية مهاراتهم، والكثير من احتياجات المجتمع، وما يدفعه هؤلاء للفنانات لارتداء الحجاب كفيل بإصلاح خلل كبير فى المجتمع وهو أفضل وأحسن وأجدى، وعلى المرأة تقرير مصيرها بنفسها دون وصاية أو خوف، فمن رأت فى الحجاب غايتها وراحتها، على الرحب والسعة، ومن رأت فى خلعه حريتها وانطلاقها ونجاحها، فنحن معها نساعدها ونعينها ونؤيدها حتى تعود مصر حرة حلوة مستقلة.
نقلا عن الوطن