بقلم: مينا بباوي
أجلت هذا المقال كثيراً لقناعتي بأن العودة إلى الماضي لا طائل منها، والبكاء على اللبن (أو الخروب سمه كما شئت) المسكوب لن تجد، وأن ما علينا هو النظر إلى الأمام والتعامل مع الواقع كما هو حتى ولو لم ينبئ بأفضل مما كان. لكني إذ لم يعد هناك أمل في مستقبل، وإذ استقرت قناعتي يوماً بعد يوم على أن قطار هذا البلد بات يندفع على منحدر حاد بشكل سريع ولم يعد بإمكان أحد أي كان أن يوقفه بعد أن اجتمع عليه الحمقى والمرتزقة والحالمين والمغفلين والمتحمسين والمتآمرين ليدفعوا بقاطرته إلى حافة المنحدر التي لا ولن يملك أحد زمام كبح اندفاعه عليه، لذلك أظن أن الوقت قد جاء لأكتب ما أجلت كتابته كثيراً عن مبارك، طاحونة الهواء التي حاربوها بعد أن ظنوا وأقنعوا أنفسهم أن جنود الإنس والجن وممالك الشر والفساد تسكنها وأن العالم خارجها تسكنه الملائكة.
وبدء حديثي هو أن ما قيل ويقال عن فساد وانتهاكات عهد مبارك هو في أغلبه الأعم صحيح، إن لم يكن في تفاصيله، فعلى الأقل في مضمونه. فلا يزعم إلا مكابر أو موتور أن دولة مبارك كانت دولة الحريات والرخاء والشفافية وسيادة القانون والديمقراطية (ولو أن لي على الديمقراطية تحديداً تحفظات أفضت في شرحها في كتابات سابقة).
غير أن الإقرار بهذه الحقيقة على قبحها، لا يكفي في رأيي لإدانة سنوات حكم مبارك إلا بقدر ما الإقرار بوقوع حادثة قتل يجعل منها بالضرورة جريمة قتل مكتملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد توجب إعدام مرتكبها. فقراءة سنوات حكم مبارك بمعزل عن خلفياتها السياسية والاقتصادية والدولية التي سبقتها والتي تخللتها معاً، إنما هي قراءة ناقصة ومخلة ومجتزئة على طريقة "لا تقربوا الصلاة"!
وبداية، فإن فهم طبيعة سنوات حكم مبارك لا يستقم دون الرجوع لملابسات صعود هذه "البقرة الضاحكة" إلى سدة أعلى منصب في الدولة بعد اغتيال السادات. وأنا حين أسمي مبارك بـ"البقرة الضاحكة" لا أقصد من ذلك إهانته أو التهكم عليه بقدر ما أقصد من ذلك أن أذكر القارئ بهذا الوصف المهين والساخر الذي أطلقه عليه المصريين في بداية حكمه ولسنوات طويلة تلته، لأن في الوقوف عنده إمساك بأول خيوط فهم حقيقة وسياق وصول مبارك إلى الحكم والتي ألقت بظلالها على سنوات حكمه وشكلتها.
فمبارك لم يكن بأي حسابات سياسية أو إنسانية الشخص المؤهل أو المرشح لمثل هذا المنصب. فلا ملكاته الشخصية أو الإنسانية أو السياسية كانت لتمكنه من ذلك وتسمح له بالإطاحة بمنافسيه للوصول للحكم، والأكثر من ذلك، الاحتفاظ به بعد أن وصل إليه. فمبارك كان وظل حتى آخر أيامه يفتقد للكاريزما بشكل فاجع، وعرف عنه سخافة مداخلاته خاصة حين يحاول أن "يستخف دمه" وهو ما لم يتخلص من على ما يبدو حتى أواخر أيام حكمه (يحضرني تعليقه السخيف في إحدى زياراته للصعيد بعد حادث غرق العبارة السلام، حين قال لمضيفه "عبارة من اللي بيغرقوا دول؟ هههههه"). الحقيقة أن مبارك لم يكن موفقاً على المستوى الإنساني ناهيك عن المستوى السياسي، ولم تكن لديه بالتالي أية مهارات أو مؤهلات تؤهله للوصول للحكم لولا أن خدمته الأقدار بقدر (الاغتيال المفاجئ للسادات)، وخدمته مراكز القوى من بقايا الاتحاد الاشتراكي، وطبقة رجال الأعمال وأصحاب المصالح الصاعدة في أواخر عهد السادات، بقدر أكبر.
في تقديري أن وصول مبارك إلى الحكم كان حلاً توافقياً ارتأته مراكز القوى في ذلك الوقت كي لا تتصارع فيما بينها، فكان أن اتفقت صراحة أو ضمنياً على أن تأتي بخيال مآتة على طريقة "السكرتير الفني" في مسرحية فؤاد المهندس الشهيرة. جاء مبارك إلى الحكم في تقديري لأنه تحديداً لم يكن يمتلك كاريزما سياسية أو إنسانية تؤهله لأن يلعب أي دور آخر أفضل من دور "الطرطور". كان مبارك المرشح الأمثل والحاضر والجاهز في لحظة اغتيال السادات، كي يضمن لأطراف داخلية وخارجية عديدة أن يبقى كل شيٍ على ما هو عليه دون تغيير بعد غياب السادات (على المستوى الدولي كان مجيء مبارك يصب في مصلحة أمريكا وإسرائيل خاصة بعد أن تصاعدت حدة المعارضة لمعاهدة السلام داخلياً، ووصل الضغط إلى أن اضطر السادات إلى قلب المائدة في وجه الجميع والقيام بحملة اعتقالاته الواسعة قبل أسابيع من اغتياله).
إن فهم هذه الخلفية والبعد في ملابسات وصول مبارك إلى الحكم، لا غنى عنه في فهم وتقييم فترة حكمه طيلة ثلاثين سنة. مبارك لم يكن في يوم من الأيام رئيساً بالمعنى السياسي للكلمة. ولم أندهش حين قال يحي الجمل في إحدى المرات بعد تنحيه عن الحكم أنه كان "موظف بدرجة رئيس" وهو الوصف الأمثل في رأيي لعلاقة مبارك بالحكم وبالرئاسة. وفي ضوء هذه الحقيقة، وانطلاقاً منها يمكننا أن نحلل فترة حكمه ونحكم عليها بما لها وما عليها.
إن من أتوا بمبارك "سكرتيراً فنياً" بدرجة رئيس كي يبقوا على امتيازاتهم وشبكة مصالحهم ونفوذهم السياسي والاقتصادي، ارتضوا أن يتقاسموا كعكعة البلاد وراء الكواليس كي لا ينفرد شخص أو فصيل منهم بمقاليد الحكم، ثم تؤهله مهاراته السياسية فيما بعد لإزاحتهم كما فعل السادات مع ما ورثه من مراكز القوة في عهد عبد الناصر في صراعه الشهير معهم. كانت الصفقة مشروطة بأن يظل مبارك "طرطوراً". صحيح أن تلك "البقرة الضاحكة" كانت باهتة وسخيفة بشكل يهدد صفقتهم لأنه يفتقد لمقومات القيادة (ناهيك عن الزعامة) السياسية التي تضمن له أن يفرض نفسه على الرأي العام لاسيما المعارضة المتصاعدة من أواخر عهد السادات، إلا أنهم قد بذلوا في بداية حكمه جهداً جهيداً في تلميع صورته و"تسويقه" للرأي العام ومحو ضحكته السمجة الأشبه بضحكة "البقرة الضاحكة" من ذاكرة الشعب الذي لم يكن في أي وقت معجباً أو مغرماً به وقابل به كرئيس.
هذا هو مبارك كما يجب أن نقرؤه ونقيم فترة حكمه. هذه هي حدوده وسياق وصوله إلى الحكم وحقيقة مطمعه وطموحه فيه. وإذا ما وضعنا يدنا على هذا البعد وهذا السياق، فمبارك الذي بدأ حكمه "بقرة ضاحكة" إنما هو في رأيي شخصية تستحق الإعجاب أكثر مما تستحق الكراهية. لا تندهش قارئي العزيز من هذا الإعلان الخطير. سوف تفهم ما أقصد حين أستفيض أكثر في تحليلي لما أنجزته هذه البقرة الضاحكة في سنوات حكمها مما لم تكن تؤهلها له ملكاتها السياسية أو الإنسانية، وقبل كل شيئ، حدود صلاحياتها وثقلها الحقيقي في ميزان القوى السياسية.
إن دولة مبارك كانت دولة استشرى فيها الفساد، وعرفت أشكالاً من التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير ومرت بأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية عاصفة. لكن السؤال هو: هل كانت مصر دولة أفضل قبل مبارك؟؟ هل ظلت كما هي في عهده؟؟ هل تردت أوضاعها عما كانت عليه؟؟
هذا ما سأجتهد في الإجابة عليه بقدر ما سوف أمتلك من حياد في الحلقة القادمة من هذه السلسلة ...