منى أبوسنة
يطرح هذا المقال سؤالًا محوريًا هو على النحو الآتى: لماذا دائمًا الوعى بعد فوات الأوان؟، وما يدعونا لطرح هذا السؤال هو ما نشهده الآن من ظواهر غريبة مناقضة للعقل فى وسائل الإعلام وما نطالعه عن تلك الظواهر فى المجلات والجرائد، وأزيد الأمر إيضاحاََ فأشير إلى الفجوة العميقة بين الواقع الذى يموج بأحداث وسلوكيات لا تمت إلى العقل بصلة سواء فى مجال الفكر الدينى أو الثقافة الشعبية من جهة، ووعى المثقفين والكتاب والإعلاميين بمدى خطورة هذا الواقع على مستقبل المجتمع المصرى من جهة أخرى، مما يدل على سمة مهمة بدأ يتميز بها المجتمع المصرى، وهى الوعى بعد فوات الأوان. وأعنى بذلك الوعى بما يدور فى الواقع أو بالأدق الحياة، وهى فى حالة حركة يومية، وهذه الحركة ليست عشوائية، إذ هى محكومة بقوانين وبمنطق، وهذا هو ما دلل عليه الفيلسوف الألمانى هيجل ١٧٧٠ـ ١٨٣١م من خلال ما أطلق عليه المنطق الجدلى الذى يقوم على ثلاثة قوانين هى:
القانون الأول: وحدة وصراع الأضداد، ومعناه أن الشىء يحيا فى حالة تناقض، ولكن هذا التناقض لا يعنى التشتت وإنما يعنى وحدة الشىء، القانون الثانى: الانتقال من التراكمات الكمية إلى التغيير الكيفى، ومعناه أن النقلة النوعية للمجتمع لا تتم إلا بتراكمات، والنتيجة المترتبة على ذلك هى أن المجتمع الذى تمتنع فيه التراكمات يتوقف عن التطور، القانون الثالث: نفى النفى، ومعناه أن المجتمع ينفى نظامه القائم بنظام جديد، ثم ينفى نظامه الجديد بإحداث توليفة من النظامين القديم والجديد تأخذ بما هو إيجابى فى كل منهما.
والآن.. نبدأ فى تطبيق هذه القوانين الثلاثة على المجتمع المصرى، فماذا نرى؟
للجواب عن هذا السؤال أجتزئ من تاريخ المجتمع المصرى الحقبة الزمانية ابتداء من ثورة ١٩٥٢ التى كانت تنشد تأسيس نظام اجتماعى جديد مناقض للنظام القديم، فماذا حدث لهذا النظام الجديد من تطور؟.
قلنا إن الشىء ينطوى على نقيضه، فما هو نقيض ثورة ١٩٥٢ الكامن فيها؟، إنها حركة الإخوان المسلمين، فهذه الحركة لا يمكن فصلها عن داخل تلك الثورة، ولا أدل على ذلك من أن الصراع بين الضباط الأحرار وحركة الإخوان المسلمين كان قائمًا فى إطار وحدة غامضة، فقد عرض جمال عبدالناصر على الإخوان تشكيل هيئة واحدة هى هيئة التحرير، على أن تضم الإخوان، بشرط ذوبانهم فى نهاية المطاف، ورفضت حركة الإخوان اقتراح عبدالناصر، ومن أجل منع الذوبان قرر الإخوان اغتيال عبدالناصر فى ٢٦ أكتوبر ١٩٥٤ وهو يخطب فى ميدان المنشية بالإسكندرية، وكان فى ظنهم أنهم بذلك يدخلون فى وحدة مع الثورة ولكن من خلال الصراع وهو هنا الاغتيال، إلا أن الاعتقالات التى مستهم أفشلت تطبيق القانون الأول، وهو وحدة وصراع الأضداد، فلجأوا إلى الاستعانة بالقانون الثانى وهو إحداث تراكمات كمية يكون من شأنها إحداث نقلة كيفية وهى الاستيلاء على السلطة، وبدأت الحركة تطبيق هذا القانون بصدور كتاب «معالم فى الطريق» عام ١٩٥٧ وتحت شعار الحاكمية لله، وفى ١٩٦٧ فسر الإخوان الهزيمة بأنها مردودة إلى انتقام الله من عدم تطبيق مبدأ الحاكمية لله.. وفى عهد أنور السادات حدث تراكم آخر، وهو تعاونهم مع السادات من أجل تصفية الناصرية واليسار، وبعد إتمام التصفية طالب الإخوان السادات بإعلان الدولة الإسلامية، فرفض، وعندئذ تم اغتياله فى ٦ أكتوبر ١٩٨١، وبعدها بدأ التيار الإسلامى الأصولى بزعامة حركة الإخوان التغلغل فى جميع مؤسسات الدولة الخاصة والعامة، ثم تبلور هذا التدخل فى ظاهرة حجاب المرأة إلى الحد الذى فرض فيه الحجاب على الأطفال فى المدارس، وتبلور هذا التغلغل أكثر وأكثر فيما قام به الدعاة من الرجال والنساء فى المساجد والزوايا، خاصة فى الأحياء الشعبية من نشر الفكر الأصولى اللاعقلانى وفرض فتاوى تروج للفكر الخرافى، ثم تدعم هذا التغلغل بإنشاء القنوات الدينية الفضائية من أجل السيطرة الكاملة المحكمة على عقول الناس، أما فى مجال التعليم العام والعالى فقد كان منذ البداية هو الركيزة الاستراتيجية لنشر فكر الإخوان فى المجتمع المصرى، وقد نجحوا نجاحًا باهرًا فى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجى ابتداء من المرحلة الأساسية فى التعليم مرورًا بالمرحلة الثانوية ووصولًا إلى التعليم العالى الذى يتحكم فيه أساتذة ينتمون إلى فكر الإخوان، مما دفعهم فى مرحلة ما إلى تأييد وتدعيم ما سمى «اتحاد الطلاب الحر» الذى كان يرفع شعار الإخوان، هذا بالإضافة إلى سيطرة التيار الإخوانى على النقابات المهنية بالكامل.
كل هذه أدلة دامغة على نجاح الإخوان فى تطبيق القانون الثانى، مما أدى إلى حتمية الوصول إلى القانون الثالث وهو نفى النفى، أى نفى الواقع الراهن للمجتمع المصرى، ثم نفى هذا النفى، أى إحلال واقع جديد محله، وهو إعلان الجمهورية الإسلامية على يد الرئيس محمد مرسى الذى وصل إلى الحكم عن طريق صناديق الانتخابات.
كل هذا حدث ومازال يحدث فى غفلة من المثقفين المصريين، وأعنى بهم الأفراد المشتغلين بالكتابة سواء الصحفية أو الأكاديمية أو الأدبية، والرافضين فكر الإخوان وسيطرتهم على المجتمع المصرى، على حد قولهم، فهؤلاء المثقفون كانوا ومازالوا منشغلين بقضايا لا تمت إلى ما يحدث فى المجتمع المصرى بصلة مثل السخرية من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والدفاع عن حقوق الإرهابيين فى حرية التعبير بدعوى حقوق الإنسان، وقضايا أخرى هامشية.
وعندما انغمس المثقف المصرى فى هذه القضايا، فإنه فى نفس الوقت تنازل طواعية عن دوره الجوهرى الذى يكمن فى مسؤوليته تجاه تغيير ذهنية المواطن المصرى وإعادة بناء عقله فى اتجاه التنوير ومواجهة التخلف، ونتجت عن هذا التنازل حالة موت وسكون، أى خروج عن قوانين الديالكتيك، فى مقابل حركة التراكم التى كان يقوم بها التيار الإخوانى ومازال، بهدف الوصول إلى الحكم مرة ثانية، ومما يزيد الأمر خطورة أن هذا التنازل من جانب المثقفين عن دورهم قد نتج عنه الإحجام التام عن مواجهة التيار الأصولى الدينى المدعم بالإرهاب وعدم تأسيس تيار مغاير وبديل له، هذا على الرغم من الدعوات المتكررة لرئيس الدولة التى يعبر فيها عن استعداد السلطة السياسية لتدعيم تأسيس هذا التيار المنشود.
والسؤال الآن: هل إحجام المثقفين عن تأسيس تيار بديل ومغاير للتيار الأصولى المدعم بالإرهاب مردود إلى عدم رغبة المثقفين فى ذلك، أم لغياب وعيهم بضرورة حدوث ذلك، أم إلى ما أسميه الوعى بعد فوات الأوان؟.