محمد حسن الألفي
تنتحر الشعوب حين تيأس من إصلاح حياتها. الطبيعي أن الذي يسعى لإصلاح حياته يراوده الأمل، ولديه الإمكانيات. حين تعجز الإمكانيات عن حمل أعباء الأمل تتساقط الأذرع مرتخية وتهمد الطاقة، ويتداعى الجسد العام.
ما وقع فينا ولنا ومن حولنا هو محاولة للإصلاح تحولت إلى عملية نزوع جماعي نحو حافة الهاوية، ونزوع بالجملة نحو الانتحار بفعل صعود الغوغائية الدينية والسياسية إلى منصات تحريض الجماهير. ارتبط الانتحار بالكفر، وبالجحيم لأنه يأس من روح الله ومغفرته. ارتبط بالخروج الجماعي إلى الشوارع وهبوط الجماعات الدينية فوق مقاعد السلطة، وقصور الحكم، وممارسة العنف ضد المعارضين بالسجن وبالذبح وبالإقصاء، ارتبط للمفارقة بشيوع الإلحاد وارتفاع معدلاته!
وفى الأسابيع الأخيرة، شهدنا أكثر من كارثة انتحار، المنتحرون من الشبان، طالبة طب وخريج هندسة، وطالب ثالث، حوالى خمس حالات في أسبوع واحد، سبقتهم حالات متناثرة، تزامنت معهم حالة انتحار في تونس، وحالة انتحار أب في لبنان، جاعت طفلته، طلبت فطيرة... كانت جيوبه خاوية !
لماذا تهون الحياة على الشخص المنتحر؟ الطبيعي أننا نفزع من شبهة المرض، ولو- لا قدر الله- جاءت التحاليل بالمرض (اللي ما يتسماش) كناية عن السرطان، إبداع مصري صميم في التعبير هروبا من وقع الاسم الشائع حاليا - تخلخلت الركب وجفت الحلوق ورأى المرء سيناريو الرعب، وهرول أهله طالبين له النجاة في المستشفيات.
المنتحر يقرر مغادرة الحياة بإزهاق روحه كرها لها وطوعا لإرادته. تلك هي الصورة الخارجية.
الصورة الأعمق والأحق هي أن المنتحر يكون دخل في حالة من التهيؤ تطبق عليه، ممتلئة بكافة المبررات، ومحرضة على ضرورة سرعة الانتقال من وطن وعيلة هم أثقل عليه مما سيراه لو فر منهما قسرا.
لا يفكر المنتحر في الجحيم، ولا في الجنة، بل يفكر في التخلص مما هو فيه، وحالة التبرير التي تسبق تنفيذ القرار ليست بالسطوع الكافي، لكنها تخلق أجواء من الإيهام تمهد لقبول العنف الملازم للإيذاء الشخصي .
الاكتئاب هو حاضنة المنتحرين. والحق أن المجتمع مكتئب، والناس كلهم مرتهنون بمجهول، والعيون على خط الأفق تترصد مصيبة. ربما وهم. ربما حقيقة. لكن الإحساس العام هو أن ثمة شيئا ما ننتظره، أو يتربص بنا. هذه حالة ارتهان للمجتمع. الكل رهينة لحظة لا تأتى. هي ليست لحظة خير. لأنها لو كانت خيرا لتهلل وطرب ورقص واستبشر. هي لحظة مؤجلة ومحملة بالنذر ومستوحاة مما مر به المجتمع من رعب وخراب سابق، ومستوحاة أيضا من كوارث حولنا. بشكل أو بآخر كل منا في الحالة التمهيدية !
هل هذه مبالغة؟ في الإعلام أن شيوع النشر يخلق حالة مجاراة واستئناس بالكارثة.
نشر وبث فيديوهات المنتحرين يجعل الأمر عاديا، ويمهد لمن يفكر، ويخايله وسواس الشيطان، ويجعل السابقين له قدوة.
من أجل هذا لا نرى أن من وظيفة (برامج التوك توك شوز) استضافة أهالي وأصدقاء المنتحرين واللطم والعويل.
أولا، لأن محتوى هذه البرامج الشوز ينبغي أن يكون قضايا عامة، لا قضايا انتحار معدودة.
الإعلام يرتكب هنا رذيلة التركيز. الأخير يجعل النواة دائرة والدائرة محيطا والمحيط هو الدنيا، وبالتالي يتصور الموشك على الانتحار أن العالم كله يعاني مثله، وأن عليه أن يكون الأشجع بقرار الرحيل العاجل.
في كل الأحوال، يمكن القول إن العالم لم يعد مكانا آمنا للحياة وللحب وللطمأنينة
النظر إلى السماء بعين الندم والاستعطاف والتوسل قد ينزل مطر السكينة على النفوس.. قد يرضي الله عنا... فنرضى.
نقلا عن مصراوي