على تيار الإسلام السياسى بفصائله وفروعه ودكاكينه، أن يستوعب الدرس جيدا، ويسلم بانتصار إرادة الشعوب فى إقامة الدولة المدنية بديلا عن الدولة الدينية، فما أقام دولته إلا وفشلت قديما وحديثا حتى لو ظلت أطلالها قائمة، وما عاودها إلا وسحب للأسف من رصيد الدين على المكشوف، ولأنه يعتقد أن النصر يوما حليفه وقرينه وقدره ومشيئة الله، فيدخل الهزيمة تليها الأخرى متوهما أنه مأجور عليها، ويراها درجة ترفعه إلى النصر، ولا يراها انحدارا وهبوطا، ولأنه لا يدرك الحقيقة فلن يفيق إلا إذا ارتطم بالقاع، عندها سيعلم جيدا أن الدين سر بين الله وعباده، وأن أمور العباد بأيديهم، وليست بيد ابن تيمية أو ابن عبدالوهاب، وما كانت الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» إلا اختصارا وإيضاحا لنموذج هذه الخلافة فى تاريخنا منذ قرون.
ولكى يكون الأمر سهلا على التيار وفصائله، فعليه أن يرى أمورا أغفل عنها عن جهل، وصم أذنيه دونها عن استهبال، ولو أخذ بها لجنب نفسه عناء الهزيمة، ووفر علينا تكلفة النصر، وتحسر على تاريخه وتاريخ أجداده، واستغفر لذنوبه وذنوب أسلافه.
أولها: وضع تعريفات محددة لكل الألفاظ محل
الخلاف، ولا تحمل عن حسن نية أو سوء نية معنى يزيد عن المقصود، ولا يخرج عن الهدف المطلوب، وهى على سبيل المثال، الجهاد، الحكم، الأمة، الشريعة، التكفير، الإيمان، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ، فلا جهاد إلا جهاد النفس، ولا تحريض إلا على العمل وتحصيل العلم، ولا حث إلا على مكارم الأخلاق، ولا تستنفر الشعوب إلا حال الاعتداء عليها، وكما تقرره الدولة وتوزعه من مهام على الشعب «جهاد الدفع» أما جهاد «الطلب » القرشى الأموى العباسى الوهابى، فقد كان خطيئة بشرية وولى وانتهى عصره إلى غير رجعة.
ولا تفسير للحكم سوى الفصل فى
النزاع والخلاف، وليس لإدارة شؤون البلاد، وأمر البلاد متروك لما يقرره الشعب، وما يراه بعينيه من تجارب وأيدلوجيات ونجاح العالم من حوله.
والأمة ليست الأمة الإسلامية جمعاء، بل كل بلد أو طن بحدوده الجغرافية المحددة أمة مستقلة، لها نظامها الخاص وعاداتها وثقافتها وتاريخها وحضارتها لا تنفصل عنها، تتجاوب مع حضارات العالم تأخذ منها وتعطيها، وليست حكرا على أصحاب الدين يهيمن ويسيطر عليها فيصيبها الوهن والعجز والتخلف والفوضى والإرهاب.
وليست الشريعة مقصورة على الحدود الأربعة التى عطلت، أو فى أحكام الرق وملك اليمين التى أبطلت بحكم القوانين الوضعية، أو نظام المواريث والأحوال الشخصية، بل هى تصريف شؤون العباد، والاستجابة إلى احتياجات الناس ومصالحهم، فما صلح من أمور الدين نأخذ به، وما وقف عند تاريخ معين نتجاوزه إلى ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض، على أن المصلحة فوق النص.
أما عن التكفير فلا يخرج عن معناه الذى نزل به، وهو الإنكار أو النفى، وليس الكفر على معناه الاصطلاحى الواسع، ولا حكم دنيويًا أو عقوبة على الكافر أو المرتد، فهذه كذبة كبرى على الله، وافتئات على حق الله.
والإيمان أن تؤمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، حرية العبادة مكفولة للجميع، ولا وصاية ولا علو لدين على الآخر.
والأمر بالمعروف مسؤولية الدولة والقانون، ولا نهى إلا ما نهانا عنه، وليست سداح مداح، فى يد فرقة بذاتها دون غيرها، وإلا كان المجتمع عرضة للانتهاك والتخويف والترويع والابتزاز.
هذا على سبيل المثال وليس الحصر، على أن أمر التعريفات هذا، ليس متروكاً لرجال الدين فقط، لكن هو أمر المتخصصين من خبرات المجتمع.
ثانيها: الالتزام بخصوصية السبب، أو
خصوصية اللفظ، أو سبب النزول، لا يتعداه إلى عمومية اللفظ، إلا إذا الحكم عامًا واضحًا وصريحًا، فما كان حكمًا لنساء النبى لا يسحب لعموم المسلمات، وما كان قتالا للمشركين وغيرهم فى زمن لا يتعداه إلى غيره أو غيرهم، ويظل حبيس أوانه وظروفه وقراره لا يخرج منه ولا يتعداه، وإلا أصبح إرهابا ومخالفة واضحة للقانون والأعراف، لما سأل عمر بن الخطاب ابن عباس: كيف تختلف أمة الإسلام وقبلتها واحدة وقرآنها واحد؟ فيرد عليه (لقد نزل القرآن وعلمنا فيم نزل، والقادمون بعدنا لا يدرون فيم نزل، فيختلفون، ثم يتقاتلون فيما اختلفوا فيه) ولنعمل جميعا العقل فى الآيات الثلاث القادمة، ونضعها بين المدرستين عمومية اللفظ، و
خصوصية اللفظ (سبب التنزيل)، الآية الأولى (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) والآية الثانية (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك) والآية الثالثة (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) والآية الرابعة (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
لا يمكن فهم هذه الآيات دون سبب التنزيل، ولو أخذناها على عموم اللفظ لكان لها شأن آخر، فكيف يكون الأولاد والزوجات أعداء لرجال مؤمنين؟ وكيف يحرم الرسول حلالًا مخافة أزواجه؟ وكيف يخشى الرسول الناس من دون الله وهو الأحق؟ وكيف نأخذ كل ما جاءنا به الرسول وربما كان خاصا بزمن معين أو بيئة محددة لم تعد صالحة الآن؟ للإجابة عن هذا لا بد أن نعود إلى سبب النزول، ويكون الحكم والأمر على مقداره ومكانه وزمانه.