بقلم – روماني صبري
ولما فتح الختم الرابع، سمعت صوت الحيوان الرابع قائلا: تعال وانظر، نظرت وإذا فرس أخضر، والجالس عليه اسمه الموت، والهاوية تتبعه، وأعطيا سلطانا على ربع الأرض أن يقتلا بالسيف والجوع والموت وبوحوش الأرض "رؤيا يوحنا اللاهوتي"
وجد المخرج الروسي "ايليم كليموف"، في رؤيا يوحنا اللاهوتي، الاسم الأفضل لفيلمه الشهير " تعال وانظر - 1985"، .. وهو الفيلم الذي فضح الحرب العالمية الثانية عبر تركيزه على الوحشة واشد الألم النفسي الذي نزل بالمدنيين الأبرياء والمجبرين على خوض الحرب، " داخل الكوخ الخشبي كان الصغير " فلوريا" يتابع جرائم النازيين ضد سكان وأطفال بيلاروسيا التابعة للاتحاد السوفيتي آنذاك، ليسال نفسه ذاهلا دون أن ينبث ببنت شفة : "لماذا جئت إلى العالم القذر؟!.. البقرة التي حلمت بالرضاعة من ضرعها لأمنح جسدي بعض الطاقة مزقها القصف العشوائي ".. أوصد الألمان باب الكوخ جيدا بعدما أغرقوه بالبنزين ليحرقوا جميع كل الأسرى داخله، أتسبغ لون فلورا بزرقة الخوف والاضطراب.. في النهاية التف حوله النازيين بالقرب من الكوخ الذي شهد المجزرة، فوجه احدهم مسدسه صوب رأسه ليلتقطوا صورة تذكارية للنصر".
ثمة ربط صريح قصده كليموف في فيلمه بين الحرب العالمية الثانية ورؤيا يوحنا اللاهوتي، ما الذي يقوله السفر ؟ انه سوف ترتجف وجوهنا جراء الرعب الذي سيطغى على الأرض نهاية الأيام وسيفقد الضعفاء الأمل والرجاء، حتى القديسين سيخوض معهم الشيطان حربا ويغلبهم لتستبد بهم بعدها تبعات الهزيمة وكوارثها، ها هو الإنسان العصبي المحب للحروب رأيناه في فيلم كليموف يجسد دور الشيطان الذي لم نلتقيه أبدا.
بأسلوب سينمائي شاعري سريالي تميز به المخرجين الروس، يبدأ كاليموف فيلمه ، الذي يتحدث عن فلوريا الفتى صاحب الـ14 عاما، وهو يبحث عن بندقية بين جثث الجنود حتى ينضم للجيش السوفيتي حبا في وطنه، وبالفعل يتحقق حلمه، ويوم ترحيله راحت والدته تتوسل لرجلي المقاومة ليتركانه لها حتى كادت تقبل الأرض طالما وقفا عليها، هي التي فقدت زوجها، حيث رأت أن تعزيز صفوف الجيش بابنها الصغير فجيعة وكارثة تفيض إلى القلب حزنا ووحشة.. في النهاية يرحل الفتى التأثر المخلص لوطنه مع الرجلين بخطى ثابتة، وقلب يجد من الكفر التفكير في إصابته بالهوس والخوف ذات يوما، متمنيا أن يقع جندي ألماني في قبضته حتى يدفع به إلى قائمة الأموات، حتى يشهد قصف العدو وهجماته المباغتة الغشيمة فيصاب بالصمم ، تتأجج الأحداث وترتفع أصوات البنادق والصرخات والأجساد التي تستحيل إلى أشلاء جراء إلقاء العدو القنابل والصواريخ، فنحد تعابير وجه بطلنا تتبدل، وببراعة شديدة يبرز كليموف ذلك باستخدام اللقطات القريبة والقريبة جدا ( extreme close up shoot ) ، لاسيما في مشهد المجزرة الجماعية، كذلك تعابير وجه الفتاة التي تظفر بأشد الجمال والتي يلتقيها الفتى فيجدها تعاني وحشة الحرب والمذابح الجماعية التي شهدتها قريتها، ليصابا معا بالهوس، ما عكس إستراتيجية "هتلر" لتدمير أعداءه نفسيا قبل قتلهم، وهو ما يظهره كليموف من خلال انهيار جمال الفتاة، والشيخوخة التي تعتري وجه الفتى وما تنفك تزداد، وكذا إصابته بالنحافة.
ومن شاهد الفيلم الروائي الأول للمخرج الروسي "اندريه تاركوفسكي " طفولة ايفان 1962" والذي يتحدث عن طفل صغير، يتم تجنيده لمساعدة الجنود الروس فتغتال طفولته ، سيجد أن ثمة تشابها كبيرا بين الفيلمين، لكن تاركوفسكي لم يفرط في القسوة وفضل أن يسير فيلمه بوتيرة شاعرية بأغلب مشاهده، عكس كليموف ، الرجل أراد أن يدفع بفيلما سينمائيا يتشابه مع فيلم تاركوفسكي " عرابهم "، يكشف فجر الحرب والغباء الإنساني ولن بقساوة.
يقول المخرج السينمائي الشهير "ستيفن سبيلبرج" :" جعلت "تعال وانظر" مرجعي لإخراج أفلامي الحربية الضخمة في هوليوود " قائمة شندلر"، " إنقاذ المجند رايان"، حيث من خلاله تعلمت صناعة تصوير هذه النوعية من الأفلام ، وذلك لبراعة القائمين عليه هو فيلم مكتمل ملحمة بصرية ."
نجح مدير التصوير "اليكسي روديونوف"، في تطويع كل إمكانياته التقنية في فن التصوير السينمائي لخدمة الفيلم، الإضاءة كانت ملائمة لظروف كل مشهد، تغير العدسات، كذلك السيناريو الذي كتبه السيناريست "الس أداموفيتش" بالتعاون مع كليموف، كان محكما للغاية وشديد الواقعية، واعتماد كليموف على أشخاص غير محترفين لم يدرسوا أساسيات فن التمثيل ، منح المشاهد مشاعر صادقة، وللتوضيح لا تنجح هذه النظرية إلا مع المخرجين الكبار، وكان طبقها المخرج المصري الكبير "داود عبد السيد" في فيلمه " مواطن ومخبر وحرامي"، عندما استعان بالمطرب الشعبي الراحل "شعبان عبد الرحيم" حيث رأى أن الأخير أفضل من يجسد فطرة وتلقائية وجهل المثقف ( شريف المرجوشي- الحرامي)، ما أذهل النقاد بعدما طرح الفيلم في دور العرض ، إذ راهنوا على فشل الفيلم لافتقاد شعبان خبرة الممثل .
لطالما سألت نفسي : لماذا يصر الإنسان على خوض الحرب التي لازالت تؤرق ذكرياتها الكريهة البشرية وتقف في طريقهم ؟ فضلا عن خيبة الأمل وفقدان الشغف الذي يستبد بالجنود المرغمين على خوضها.. ربما نرجسية الفاشيين النازيين كانت وراء ذلك، وحتى يومنا هذا لا زال بعض الحكام يتمتعون بصفات النازيين كالمجرم التركي رجب طيب أردوغان، الذي ما تنفك الكراهية والحقارة تتركه فنراه دائما يتحدث عن حلم دولة الخلافة بإعادة الدولة العثمانية التي أفقدت العالم وسامته، فبات سواد قلبه يضفى عليه الهذيان ويجعله يهذي، لم انتقد حاكم كما انتقدت الرئيس الراحل محمد أنور السادات ونظيره السابق جمال عبد الناصر، لكن رغم ذلك سأظل أكررها أن أفضل قرار اتخذه السادات هو معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل "حيث تقتل الحرب الأحلام .. ويكفي على العالم صراعاتنا وحروبنا النفسية."