خالد منتصر
اندهشت عندما رأيت كل تلك الكلمات التى كتبت فى رثاء المترجم الفلسطينى الراحل صالح علمانى، صاحب ترجمات أكثر من مائة كتاب من الأدب الإسبانى، وبالأخص أدب أمريكا اللاتينية.. «علمانى» الذى فتح لنا كقراء أعظم نافذة على أجمل مدارس كتابة الرواية فى العالم، تنفسنا معه أجواء الواقعية السحرية التى تحمل طزاجة وبكارة وشراسة وتنوع ووحشية وحسية وثراء غابات أمريكا اللاتينية، وإذا كان القول الشائع بأن الترجمة خيانة قد ترسخ فى الوجدان، فإننى أعتبر المترجم أعظم الخونة، والخائن النبيل، الخائن الذى لا بد من منحه وساماً وتكريمه بالنياشين!!
لولا صالح علمانى ما كنا قد لمسنا وتعرفنا على هذا السحر الذى أمسك بتلابيب روحى أنا شخصياً، لدرجة أننى قد وصلت إلى قناعة بأن من لم يقرأ أدب أمريكا اللاتينية فهو قد فقد نصف مساحة الإبداع العالمى، هم وحوش كتابة روائية بامتياز، وقد سبقنا صالح علمانى جميعاً لنداهة هذا السحر اللاتينى، عندما ترك كلية الطب وذهب ليتعلم الإسبانية ويتخصص فيها ويتقنها برغم تعدد لهجاتها، سحره الشاعر بابلو نيرودا فى البداية، ثم الأدب الكوبى، وتلاه بيرو وكولومبيا... إلخ، عرفنا ماركيز من خلاله، كان عيننا الثالثة وفص مخنا المضاف الذى أدركنا من خلاله كم هو جميل وثرى هذا النوع من الإبداع الذى يأتى من تلك القارة البعيدة المنهكة بالصراعات والحروب والانقلابات، يقول «علمانى» إن المترجم ليس خائناً بل شريك للمؤلف، وكان يروى باستمرار كيف أنه سافر فى العام 1970 إلى برشلونة لدراسة الطب ثم انتقل لدراسة الصحافة، فصمد سنة واحدة فقط، عمل بعدها فى الميناء واختلط بعالم القاع كأى متشرد. وبينما كان يتسكع فى أحد مقاهى برشلونة ذات مساء، قابل صديقاً كان يحمل كتاباً، فنصحه بقراءته. كانت الطبعة الأولى من «مائة عام من العزلة» لجابرييل جارسيا ماركيز. يقول «علمانى»: «عندما بدأت قراءتها، أصبت بصدمة. لغة عجائبية شدتنى بعنف إلى صفحاتها. قررت أن أترجمها إلى العربية. وبالفعل ترجمت فصلين ثم أهملتها». ويضيف: «عندما عدت إلى دمشق نسيت الرواية فى غمرة انشغالاتى. لكن ماركيز ظل يشدنى، فترجمت قصصاً قصيرة له، ونشرتها فى الصحف المحلية. ثم ترجمت «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» (1979). لفت الكتاب انتباه الناقد حسام الخطيب، فكتب أن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية. هذه الملاحظة قادتنى إلى احتراف مهنة الترجمة. قلت لنفسى: أن تكون مترجماً مُهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا مزقت مخطوط روايتى الأولى من دون ندم، وانخرطت فى ترجمة روايات الآخرين».
إخلاص صالح علمانى يذكرنى بإخلاص سامى الدروبى. والمدهش أن صالح علمانى عاش فى حمص وهى نفس المدينة التى ولد بها الدروبى، وإذا كان علمانى قد فتح عيوننا على حرارة اللاتينيين، فقد كسر الدروبى الجليد الروسى، هذا الحاجز بين المثقف العربى وديستوفيسكى وتولستوى وغيرهم... إلخ، لكن علمانى ظل راهباً فى محراب الترجمة فقط حتى وظيفته كانت لها علاقة بالترجمة، أما الدروبى فقد دخل مجال السياسة والسلك الدبلوماسى ووصل إلى أعلى المناصب.
لكن تظل الترجمة هى الفريضة العربية الغائبة، ونظل لم نوفّ حق المترجم العربى بعد، الترجمة إبداع ثانٍ، الترجمة تأليف على تأليف، وترجمة جوجل الباردة الفورية لن تقضى على المترجم المحترف الذى يحس الجملة وثراءها ولا يترجم مثل الكمبيوتر بلا روح.
المجد للمترجم الذى قنع ورضى بمكانه خلف الكاميرا لا فى بؤرة الضوء، ولروح علمانى والدروبى الرحمة والحب.
نقلا عن الوطن