أمينة خيري
لو ذهب شخص يمر بضائقة نفسية ما؛ ليتحدث إلى طبيب أو معالج نفسي، ووجد أن الطبيب أو المعالج يساعده ويعالجه عبر الصراخ والعويل تارة، والتهديد والتنديد تارة أخرى، والتركيز على الجوانب العقابية والزوايا الترويعية في النفس البشرية، فما النتيجة؟ النتيجة واحدة من اثنتين لا ثالث لهما: إما سيرضى الشخص بطريقة العلاج، ويرتدع لتهديد الطبيب ووعيده، ويسلم عقله وقلبه له باعتباره الأعلم والأكثر إلماماً بخفايا النفس وأسرار الصحة النفسية؛ أو أنه سيعرض عن الطبيب ويتمرد على العلاج، ويبحث عن سبل علاجية أخرى أو يقرر أن يستكمل حياته تحت وطأة حمولته من المشكلات والمتاعب حتى لا يضيف إليه حملاً إضافياً، ألا وهو تحمل صراخ الطبيب وتهديده ووعيده.
وفي كل يوم جمعة أسأل نفسي لماذا تعمد نسبة كبيرة من خطباء المساجد إلى الصراخ الشديد والانفعال المفرط أثناء إلقاء الخطبة؟ ولماذا يتحدث بعض الخطباء بلهجة التهديد طيلة الوقت؟ ولماذا لا يميلون أكثر إلى الجوانب الترغيبية بدلاً من اعتماد النهج الترويعي لضمان الإنصات والاتباع والإذعان؟ وإذا كان هذا الأسلوب يجدي نفعاً مع البعض ممن يرتضون بالتخويف منهجاً والترويع طريقة، ألا يفكرون في غيرهم من البشر ممن لم يتربوا على التفزيع ولم ينشأوا على التخويف؟ وألا ينتابهم القلق من أن يفلت الذين سلموا عقولهم وقلوبهم لهذا النوع من الخطاب تحت ضغط الخوف والوجل، فيهربون إلى النقيض؟ وهل جربوا أسلوباً أكثر هدوءًا لجذب المؤمنين والباحثين عن طريق الدين الحق؟ وألم يربطوا يومًا بين ميل الشارع المصري في العقود الأخيرة إلى الخناق وسيلة لحل المنازعات، والصراخ أسلوباً للكلام، والعنف اللفظي طريقة للحياة وبين هذه الطريقة في الدعوة إلى الدين؟
الأسبوع الماضي كنت أخوض حوارًا من حوارات النفخ في الإربة المقطوعة مع نادلين في مقهى وقفا يتبادلان حديثًا أخويًا جهوريًا، أحدهما في أول المقهى والثاني في آخره، وقوام الحديث دعابة حيث الأول يهدد الآخر بفتح كرشه إن لم يرسل له الأغنية الجديدة لمطربهما المفضل، والثاني يرد بأنه قبل أن يُفتح كرشه سيكون حتماً قد فقأ عينيه، رن هاتف أحدهما رنة عبارة عن دعاء تقول كلماته "ربي بشرني بما يسرني، وكف عني ما يضرني، وثبت يقيني". لكن الشخص الذي يردد الدعاء في النغمة يبكي ويتشحتف بشدة. ولأن موضوع الحوار كان محاولة لإقناعهما بأن يخفض صوتيهما، ويتبادلا الحديث وهما على مقربة من بعضهما البعض، وذلك قبل أن أخوض في مسألة فتح الكرش وفقء العينين، فقد تنبهت فجأة إلى فداحة وعدم جدوى ما أقوم به.
فالنادلان وغيرهما ملايين ولدت ونشأت في أحضان الصراخ والتهديد والوعيد عبر مكبرات الصوت. كثيرون من هذه الملايين يعتقدون أن الطريقة الوحيدة لتثقيف المؤمن وتعليمه أصول الدين هي بالصراخ عنصرًا دراميًا للجذب، والتهديد كوسيلة وقائية من الوقوع في براثن الرذيلة والوعيد كمدرسة تعليمية لضمان الضبط والربط في صفوف الملتزمين.
لكن الالتزام بتعاليم الدين وتثقيف الناس بها أقرب ما تكون إلى زيارة الطبيب النفسي. يفترض أن تكون راحة للنفس المتعبة، وليس تهييجاً لها. يفترض أن تكون زرعاً للهدوء وبثاً للسكينة وليس زرعاً للأدرينالين وبثاً للكورتيزول (هرمون التوتر). يفترض أن تدعو المتلقي وتحبب المستمع وتجذب عابر السبيل إلى المحتوى عبر الطمأنة والطبطبة والإراحة.
كيف يمكن أن يكون الحديث عن التسامح والسماحة عبر الصراخ الجهوري؟ ويكف يمكن أن أجذب طفلاً أو مراهقاً أو حتى كهلاً للإيمان عبر الدق على أوتار العذاب والنار والألم والحرمان فقط؟ كيف يمكن أن أحبب امرأة مثقفة واعية في الدين والجنة بحصر المتعة في الحور العين اللاتي يمتعن الرجل الملتزم المتدين؟! وسؤالي إلى الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وفيهما علماء مستنيرون وأفراد قادرون وراغبون في تحكيم المنطق وتغليب المصلحة العامة، هل لنا في مراجعة محتوى وأسلوب ما نبثه في الخطب علنا نزيد هداية موضوعاً بعد أن اهتدينا شكلاً؟!
نقلا عن مصراوى