بقلم: أندرو اشعياء
وقفت كعادتي لأصلّي متجاهلاً ما يحدث في الخارج. لقد اعتدت صراع العاصفة مع الصحراء القاحلة. لم يكن الأمر مفاجئاً لي ولا غريبًا علئ حيث اعتدت فيما قبل أن أجوب الصحراء بحثاً عن غنائم، وأقضي الليالي في العراء برفقة رفاق الموت.
إلا أن تلك الليلة ليست كباقي الليالي!
قمت من مجلسي، والتقطت شمعة كبيرة من تجويف كنت قد حفرته في الصخرة وقد ملأته بالقش، ووضعت عليه بعض الشموع والزيت وبعض البقوليات التي كنت أكل منها طوال الأسبوع.
أشعلت الشمعة ووضعتها في تجويف آخر بجانبي بعيدًا عن القش.
مددت يدي ودفعت الشمعة إلى الداخل قليلاً ليبتعد باللهب عن ملاحقة الهواء، وقفت صامتاً بيد أنّ الصمت لم يكن خيارًا في تلك الليلة إذ أنّ الجلبة الخارجية ألقت بظلالها على الصمت المعتاد.
حاولت أن أغمض عينيه لأستجمع ذهني بعيدًا عن صراع الطبيعة الخارجي وجلبة الصحراء وزئير الهواء المتزايد .
وفجأة سمعت صوتاً مدوٍ يقول: يا موسى، هيا تعال، إلى أين تذهب، الرفقاء في انتظارك، قد حان وقت تقسيم الغنائم، واحتساء الخمر، ورفقة النساء!
انتفضت من هول الصوت ونظرت حولي بنظرات سريعة في كل اتجاه وكأنني أمشط المغارة الضيقة بحثاً عن الصوت! إلا أنه لم أجد حركة في المكان سوى ذلك اللهب النافق الذي بدأ يُدَخَّ من حصار الهواء المُنْسلُ من العاصفة.
رفعت صوتي: يا ربي يسوع المسيح ابن الله الحي، ارحمني أنا الخاطئ. حاولت أن أستجمع هدوئي الداخلي لأبدأ في صلاتي مجددًا مرتلًا: إن لم يبن الرب البيت فباطلاً تعب البناؤون. وإذ بالصوت يعود مجددًا مطلقاً الصدى في أرجاء المغارة الضيقة، ويقول : يا موسى ، لن تفر منّا الليلة، ها رفقتك في انتظارك ... أنسيت أوقات اللهو الممتعه ؟
حالما سمعت الصوت، بدأت عيناي ترتعش وهي مغلقة، وقلت بنبرة حزينة يملأ صداها الذعر: من أنتم ؟ أجابني الصوت: نحن رفقة الأمس، وأصدقاء الأنس، وصَحبة الجنس.. أنسيتنا بعد أن عشنا معاً طويلاً ؟ أغمضت عيناي مًحاولًا التجاهل مجددًا إلا أنّ الصوت بدأ يعلو، وبدأ خيال امرأة يتجمّع في ذهني من الماضي .. فتحت عيني في فزع، وقمت من على الأرض صارخًا : يا ربي يسوع المسيح، ابن الله الحي، ارحمني أنا الخاطئ.
شَعرت أنّ كلّ جسدي ينتفض، وأنّ حركة غير طبيعيّة تتملك على جسدي! وكأن الشهوة نشبت مخالبها في الجسد المُنْهَك من النسك على حين غرّة ، وقد بدا وكأنّ طهارة ذهني التي رافقتني في الفترة القليلة الماضية بدأت تنزف دمًا.
لاحقني الصوت وصاحبته الخيالات.. ازداد في القوة وتزايد في التأثير علئ .. حاصرني، لم أعد أقوى ولا على رفع صوتي في الصلاة .وشعرت بخجل شديد .. كانت الأصوات تتنوع ما بين أصوات نساء قد رافقتهن في شبابي، أصوات الرجال الذين كانوا يتوسلون إلئ إبان غزواتي التي كنت أرفع فيها سيفي لأرْهِب من حولي، أصوات أصدقائي الذين كانوا يتغنون ببطولاتي، أصوات صرخات العجائز والأمهات ممّن سلبتهم أولادهم وبناتهم، أصوات حشرجات الموت التي كانت تنطلق من الذين كنت أقتلهم بدم بارد .. أصوات كثيرة مختلطة تكالبت علئ في تلك الليلة واختلطت بصرير الهواء الخارجي .. شعرت أنّ عالمي الجديد ينهار، وأنّ ريادًا من العالم القديم شرعت أن تجد لها مكاناً داخلي.. حبّي وشوقي للمخلّص بدا وكأنه شاحباً أمام عنفوان الحرب الطاحنة في تلك اللحظات القاسية !
جلست في ركن من المغارة باكيًا، لم أكن قادرًا على الإحتمال. حتى أن الدموع لم تكن كافية وقتها لتبعث بالهدوء إلى قلبي. رفعت صوتي وصليت: أيها القدوس، يا من قبلتني في شركة القديسين سكان هذا الموضع، وجعلتني ابنَاً لك أنا غير المستحق، نجني من عنفوان الماضي الملوّث، لقد آثمت أمامك، ولكني الآن أنا لك، أنت ملكي الحقيقي، لن أعود إلى ما كنت عليه ولو كان في ذلك موتي . .
سمعت قهقهة مدوّية وصوتَ حادِ يقول : يا موسى لن تفلت منّا .. أنت لنا .. أنت لنا. فصرخت صرخة مدويه، وكأنني أرفع سيفي من غمدي مُجدداً : أنا لملكي وربي ومخلصي يسوع المسيح ابن الله الحي ... أجابني الصوت : أنت ملكنا ... افعل ما شئت فستعود لنا في آخر الأمر ... وسنكون في انتظارك يا زعيمنا
صرخت في ألم : لا ... أنا ملك له ، لذاك الذي افتداني بحياته، وأقامني بقيامته، وألبسني ثوب البنوّة، وبدأت أسجد سجدات متواترة سريعة وكأنني أردت أن أنفض الأفكار التي لصقت بي صارخًا طالبّاً الرّحمة ولكن ما أن توقفت عن السجود حتى بدأت الأفكار تحيط بي مرّة أخرى كالذباب الذي لا ييأس من ملاحقة قطعة حلوى مهما حاول صاحب الحلوى أن يدفعها بعيدًا مئات المرات.
شعرت أنّ المغارة تضيق علئ، وأنّ نَفَسَي بدأ يختنق، وفي المقابل شعرت أنّ الخيالات تتمدّد في كل مكان حتى كادت تلمسني بالفعل. فقمت سريغًا وتلفّعت بشالٍ مُتَهَرّي، وغادرت مسرعاً لأبي الروحي الانبا ايسيذوروس .. دعوني الان ولنا حديث اخر