الاغتراب عن النفس مشكلة نفسية هامة، يشعر فيها الشخص بأنه معزول عن مجتمعه، أو أن يكون لديه الشعور بالانفصال النسبى عن ذاته أو مجتمعه أو كليهما، وهذا موضوع هام جدًا، ينتج عن الفشل فى إشباع الاحتياجات النفسية المختلفة، واستثمار المواهب التى أعطاها الله للإنسان. وقد ذكرنا سابقًا أن من الحاجات النفسية الأساسية:
1- الحاجة إلى الحب
2- الحاجة إلى الآخر
3- الحاجة إلى الأمن
4- الحاجة إلى الانتماء.
ونستكمل موضوعنا..
5- الحاجة إلى اللانهاية:
أ- معروف- علميًا وروحيًا- أن فى الإنسان جوعًا لا نهائيًا، وعطشًا إلى المطلق (أى غير المحدود) أنه المخلوق الوحيد الذى يتجاوز ذاته، ويفكر فى أصل وجوده، ومعنى حياته ومصيره المستقبلى، ويدرس ما وراء الموت وما وراء الطبيعة، وما وراء المادة، وما وراء الزمن... إلى آخر هذه «الماورائيات» التى تعبر عن بصمة لا نهائية فى أعماق الإنسان، لا تشبع بالمحدود، ولا تكتفى بالمحسوس، وتطمح نحو عالم روحى خالد، يتسامى فوق التراب والمادة والزمن..
ب- لهذا قال «باسكال»: «إن الإنسان بئر من الرغبات»: أى أن فيه جوعًا مطلقًا غير محدود. ويستحيل أن يضع الله فينا جوعًا نحو شىء ما، دون أن تكون لنا فرصة بلوغه والشبع منه... فالجوع إلى الطعام أو الجنس أو الأولاد... كلها متاحة للإنسان، أما اللانهاية فينا فلا يشبعها إلا الكائن اللانهائى الوحيد، وهو الله وحده.
6- الحاجة إلى المشاركة:
أ- بمعنى أن يكون للإنسان دور فى الجماعة التى ينتمى إليها: لا أن يكون عاجزًا عن المشاركة الإيجابية الفعالة، فى النشاطات الإنسانية المختلفة: كالتفكير والتعبير والتقرير، والتنفيذ. إن إسهام الإنسان بدور خاص فى عمل الجماعة التى ينتمى إليها، ونشاطها، أمر هام فى سبيل محو الاغتراب عن النفس، إذ سيحس الإنسان ساعتها بأنه «عضو» فعال فى الجماعة، وليس مجرد «فرد» يمكن الاستغناء عنه. وعكس ذلك، الاستغناء عن الفرد، يؤدى به إلى الشعور بالاغتراب النفسى، وبالتالى بالوحدة حتى وسط الجموع أو الأقارب أو الأصدقاء، وقد يؤدى به إلى الإحباط المدمر!
ب- وفى الجماعة «لا نعرف» أفرادًا «بل أعضاء، كما ذكر القديس بولس الرسول: فَنحْن الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَر» ومن لا يستشعر عضويته فى الجسد الواحد، وذلك بأن يكون له عمل ودور، سرعان ما يحس أنه مجرد «زائدة» يمكن استئصالها دون أن يخسر أحد شيئًا.
ج- من هنا كان إعطاء دور وعمل لكل أعضاء الجماعة أساسيًا فى محو الاغتراب عن النفس...
7- الحاجة إلى المعنى:
أ- من أهم أسباب الاغتراب عن النفس إحساس الإنسان بأن كل شىء يسير من حوله، دون أن يفهم: ما هذا؟ ولماذا؟ والمعنى المقصود والهدف المطلوب تحقيقه من هذا النشاط أو ذاك؟
ب- الإنسان فى أعماقه إحساس أبدى: به يفهم معنى الوجود والحياة، وسبب الشر والخطيئة، وطريق الخلاص، والأبدية. قال عنه سليمان الحكيم: «وضع الأبدية فى قلبهم، التى بدونها لا يعرف الإنسان معنى العمل الذى عمل، من البداية إلى النهاية».
ج- هذا عن عمل الله فى الكون. فماذا عن بقية النشاطات الإنسانية؟: يحتاج الإنسان أن يفهم ويعرف.. لهذا نسمع فى هذا العصر تعبير «حرية الحصول على المعلومات»... طبعًا هناك معلومات سرية كالشؤون العسكرية، وكل بقية النشاطات أصبحت توضع الآن فى شبكات الكمبيوتر، ليفهم الإنسان ما يدور حوله فى العالم.
د- وعلى مستوى الجماعة الصغيرة، يجب أن يتاح للعضو فرصة أن يعرف ويفهم ما يدور حوله، وكيف يتم اتخاذ القرارات، وتوزيع المسؤوليات وإلا فسيظل مغتربًا عن نفسه، ومنعزلاً عن الجماعة وشاعرًا بالتهميش.. وهذا له أثره النفسى السيئ فى حياة الإنسان.
ولقد كشف الفيلسوف سقراط من قبل الميلاد، عن شعوره بالغربة والاغتراب، وقد عبر عن معاناته ووحشته وألمه بقوله:
ألا موت يباع فأشتريه.. فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتى.. يخلصنى من العيش الكريه
إن أبصرت قبرا من بعيد.. وددت لو أننى مما يليه
- وفى النهاية استطاع أن يقهر عجزه واغترابه، إذ لم تكن نهايته إلا تجسيدًا رمزيًا لقضية تمرده واغترابه.
- فظاهرة الاغتراب - حيث اصطلح الباحثون على تسميتها بذلك - أصبحت سمة من سماة العصر عما يشعر به الإنسان الحديث من غربة، وما يحسه من زيف الحياة، وما يلاحظه من سطحية فى علاقات الأفراد بعضهم البعض، فى صورة تكاد تهدد وجود الإنسان، وصحته النفسية. وقد تحدث علماء النفس والتربية عن هذه الظاهرة، وما يتبعها من آلام نفسية رهيبة، وإحساس بالانفراد والعزلة والوحشة، التى تقود إلى «الإحباط» الذى يدمر نفسية الإنسان وربما جسده أيضًا..
إنها من أعقد قضايا الإنسان المعاصر بسبب ازدياد نموها واتساعها وخطورتها.. حفظ الله شبابنا منها. (يتبع)
* أسقف الشباب العام
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
نقلا عن المصرى اليوم