الأنبا إرميا
تحدثنا فى المقالة السابقة عن زمن استعادت فيه الدولة العباسية أمجادها؛ حيث كان يحكمها الخليفة العباسىّ «المقتدى بأمر الله» الذى ذُكر عنه الهمة والشجاعة والتقوى، إلى جانب كل من القائم بأمور الدولة السلطان السِّلچوقىّ «ملكشاه» الذى عُرف عنه الشجاعة والعدل وصواب الرأى، والوزير «نظام الدولة» الذى قيل إنه كان «من أكابر العلماء، تقيًّا فاضلاً، محبًّا للعلم وذويه»؛ فعظُم شأن الدولة. وفى عام 485هـ (1092م)، قُتل «نظام الدولة»، وتُوفى «ملكشاه»، وتُوُفِّى الخليفة «المقتدى» عام 487هـ (1094م). أمّا «مصر» فى ذٰلك الزمان، فكانت تحت حكم الخليفة «المستنصر بالله».
«المستنصر بالله» (487-427هـ) (1094-1036م)
هو ابن الخليفة «الظاهر لإعزاز دين الله»، المسمى «أبا تميم مَعَدّ»، الملقب «المستنصر بالله»، خامس خلفاء الدولة الفاطميِّين. تولى أمور الحكم بعد موت أبيه عام 427هـ (1036م)، وكان يبلغ آنذاك سبع سنين وسبعة وعشرين يومًا. استمر فى الخلافة ستة عُقود وبضعة أشهر؛ فيذكر المؤرخ «الذهبىّ»: «بقِىَ فى الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر... ولا أعلم أحدًا فى الإسلام ـ لا خليفةً ولا سلطانًا ـ طالت مدته مثل «المستنصر» هٰذا»، فى حين قال «أبو المظفر»: «ولم ينَل أحد من الخلفاء الأُمَويِّين ولا العباسيِّين ولا المِصريِّين مثل هٰذه المدة... وعاش المستنصر سبعًا وستين سنة وخمسة أشهر». وقد عاصر «المستنصر» حكم كل من الخليفة العباسىّ «القائم بأمر الله»، ومن بعده الخليفة «المقتدى بأمر الله».
عندما تولى «المستنصر» الحكم، كان الوزير «علىّ بن أحمد الجرجائىّ» وصيًا عليه ومديرًا لشُؤون الدولة، فأخذ له البيعة من الجند، وصار الوزير هو الحاكم الفعلىّ للبلاد. ويذكر المؤرخون أنه فى عام 443هـ (1051م) ثار الأمير «المُعز بن باديس» فى «المغرب» على الحُكم الفاطمىّ، شاقًّا عصا الطاعة على «المستنصر»، خاطبًا لـ«بنى العباس». وعام 451هـ (1059م)، خُطب للخليفة «المستنصر» على منابر «العراق» أميرًا للمؤمنين بعد أن استولى عليها «البساسيرىّ» وخلع الخليفة العباسىّ «القائم بأمر الله» ـ وقد تحدثنا عن ذٰلك بإسهاب فى مقالة سابقة؛ فيذكر «الذهبىّ»: «وهو (يقصد «المستنصر») الذى خُطب له بإمرة المؤمنين على منابر «العراق» فى نَوبة الأمير «أبى الحارث أرسلان» المعروف بـ«البساسيرىّ»...».
أمّا المدة 457-464هـ (1065-1072م)، فكانت سنين قاسية مريرة على الشعب المِصرىّ، إذ حل غلاء عظيم بأرض «مِصر» استمر سبع سنوات؛ فنجد فيما يذكره المؤرخون عن تلك المدة من أحداث وروايات ما تقشعر له الأبدان! فيذكر «الذهبىّ»: «وحدث فى أيام «المستنصر» بـ«مِصر» الغلاء الذى ما عُهد بمثله منذ زمان «يوسف» عليه السلام!! ودام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضًا!! حتى قيل: إنه بيع رغيف واحد بخمسين دينارًا»، وقال «أبو المظفر»: «أقامت البلاد سبع سنين يطلُع «النيل» فيها وينزل، ولا يوجد من يزرع لموت الناس واختلاف الوُلاة والرعية، فاستولى الخراب على كل البلاد، ومات أهلها، وانقطعت السبل برًّا وبحرًا. وكان معظم الغلاء سنة اثنتين وستين». أمّا «المستنصر» فى تلك الأيام فقد ذكر أنه هو الوحيد من كانت لديه بَغلة يركبها، فى حين كان خواصه يمشون ويخورون من الجوع! وقد تفاقمت الأمور حتى وصل الأمر بالخليفة «المستنصر» عام 460 هـ (1068م) أن يستعير بغلة ليمتطيها فى انتقالاته.
وقد تسبب الغلاء فى هجرة كثير من المِصريِّين إلى بلاد أخرى؛ ويذكر «ابن الأثير»: «هٰذا والغلاء بـ«مِصر» يتزايد، حتى إنه جلا (خرج) من «مصر» خلق كثير؛ لِما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحد، والجوع الذى لم يُعهد مثله فى الدنيا؛ فإنه....» والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم