تأليف – روماني صبري
الله صديقي .. دائما ما ردد السيد يوسف المجنون هذه العبارة لنفسه، من أحلامه أن يرى المسيح وجها لوجه حتى يشد على يده بحرارة ويخبره انه الرجل الأعظم، ليضيف بقوله صديقك مشوش الذهن فلترحمه.. ولا تدع الجحيم يعرفه عندما يغيبه الموت عن الحياة،...ها هو منزوي بأحد أركان غرفته جالسا القرفصاء غاضا إصبع الندم يقول مختصا خالقه :"الهي أحلف لك بشرفي أن أمثالي يستحقون المزيد من الفرص، وما الإنسان سيدي النبيل ؟ اغتصب غيره ليعيش ؟ .. تعلم كل العلم أن صديقك المجنون، يحب "أحمد الزنجي" ... هو الذي وصفني بالمجنون حتى اشتهرت بهذا الاسم، لطالما أحب الدعابة واخلص لها، وكيف لا أحبه ؟! .. صديقك بات يكن له كل الاحترام منذ التقاه في العمل ملتحفا بغطاء شتوي فوق معطفه الصوف يتمتم :" سأعد لكم القهوة الساخنة .. أود أن أؤكد لكم أن القهوة تستطيع التصدي لبرودة ديسمبر القاسية فقط أمنوا بذلك، واعلم كل العلم أن ثمة فارقا كبيرا بينها وبين النيران.. آه النيران كم أتوق أن أضرمها بمكتبي المتهالك، عليه أقوم بالعمليات الحسابية ومراجعة أذون الوارد والمنصرف، هنا بت عبدا مثلكم."
هب الرجل المجنون ليحضر الكرسي الخشبي المستقر بجوار أريكة غرفته.. وضعه في الركن ذاته ثم نظر إلى لوحة المسيح المصلوب وهو يهم بالجلوس حتى استقر عليه قائلا :" أصبت بانزلاق غضروفي عنقي أفقدني الاتزان أثناء المشي، انه ما يزعجني يا الهي، على أي حال سأخضع لعملية جراحية بعد عيد الميلاد المجيد، وأومن أشد الإيمان أن الذل لن يعرف حياتي، صديقك بات واسع الثراء إزاء عمله بالتجارة، بالأمس حلمت أن الجراح الأجنبي عانى الفشل وهو يجري لي العملية، وبعدما أفقت من التخدير، رايته يبكي نظر إلى واختصني :" اغفر لي .. بماذا تشعر ألان ؟، أجبته:" أتدري هو شعور ذكرني عندما ركضت إلى طبيب الإنسان بعدما بارحني الم ضرس العقل بفكي العلوي، فإعطاني الطبيب على الفور حقنة البنج وتمتم :" الآن ستشعر بالراحة.. تمر هنيهة من الوقت وسأحررك من هذا الضرس المثقوب"، هل جاء طبيب الإنسان وغمد حقن البنج في كل جسدي ؟!"، فصرخ الجراح في وجهي ليتطاير رذاذ لعابه من فمه وبصيب وجهي :"لقد حلت اللعنة بحياتي .. أنها ساعة جدتي الدقاقة اللعينة سقطت من يدي وأنا اجري لك العملية ففزعت وأصبت بالهلع فما كان مني إلا أن اصهر غضبي بتهشيم الحبل الشوكي العنقي خاصتك، منذ اليوم يعرفك الشلل الكلي، أما أنا الحقير سيعرفني الخجل والعار"، ... آثمة جحيم يا يسوع أكثر من ذلك؟!.. أنها حياتي ."
ماذا تساوي حياة الإنسان إذا كان مضطربا كالرجل المجنون وصديقه الزنجي، وليس ثمة احتقار له لوصفي له بالزنجي، هو يحب ذلك لطالما لم يجد في هذا الوصف أي اهانة أو أثم، فهو الرجل الذي لم يغير ملامحه الثراء الفاحش، ودفعته قوته لرفض الزواج خشية أن ينجب فيظلم أبناءه وزوجته كونه متقلب المزاج ويطفح عليه الاكتئاب دائما .. أمن دائما أن الرجل الذي يعرفه الاكتئاب من الوقاحة أن يتزوج، حتى ينال احترام نفسه قبل الآخرين، دون أن يشعر انه مغلوب على أمره ويحتاج استشاري أمراض نفسية، قبل أن يرحل عن عالمنا بعث برسالة لصديقه المجنون عبر البريد جاء نصها " اغفر لي ولزوجتك التي تركتك مثلي ونجحت في تطليقك، لا تستطيع أن تنكر انك أيها الوغد من حولت حياة هذه الجميلة لجحيم.. يوم زفافكما كانت ترتدي فستان زفاف جميل غير تقليدي لا يشبه فساتين الأميرات ذو اللون الأبيض المزعج، واعتمرت قبعة أنيقة من الدانتيل .. كم يتدفق فيض من الغبطة والسعادة عند النظر لهؤلاء البسطاء، جواربها النايلون أيضا كانت شديدة السحر، جلست بجوارك آنذاك بحركة خفيفة باسمة وهي تمعن النظر في ملامحك رغم أذناك الكبيرتان وصلعتك اللامعة، هههههههه ها أنا أضحك الآن يا صديق العمر، يقول عني المصريين متنمرا وتستبد بهم الدهشة جراء ذلك كوني زنجي أعزب، أتدري لقد جئت إلى مصر حتى أتعلم الضحك وإطلاق النكات اخبرتك بذلك مرارا وها أنا أكرره أخيرا في رسالتي ، ولان مزاجي لا يستقر على حال فشلت مصر أيضا في شفائي من الاكتئاب، فقط كان التنمر الذي لا يحمل في طياته الضغينة يتولى الأمر قليلا .. امتزجت أرواحنا معنا لأننا نشبه بعضنا كثيرا، أنها النهاية يا صديقي لم أنهي مشاكلي فشلت في ذلك أشد الفشل، وليشهد الله الذي لا اله ألا هو إنني لو كنت استطيع مساعدتك لما تركتك وحيدا تعاني الوحشة وقتها كنت سأقدم لك المعونة حتى لا تبقى وحيدا في شقتك، أنت مصاب بالخوف والرهاب ربما هذا ما يطلقون عليه الحمقى وسواس قهري عصامي، أهذا من جعلك تتسول الحب من زوجتك ؟!.. كان لديها دوافعها لتتركك التمس لها العذر مثلي وتمنى أن يمنحها الله كل السعادة مع زوجها الجديد ... والله يا صديقي رغم انك مريض مثلي ولا تحب الأطباء وتتساءل دائما معي لماذا خلق الله البعض مصابين بالاضطراب منذ مولدهم دون أن نجد أي إجابة، إلا أن حب الله ثروة لكل إنسان... الفتيات المصريات اللائي يعملن بمصنعنا يملأن قلبي غبطة، سأفتقدهن كثيرا مثلك.. التقيتك في ديسمبر وسأتركك في ديسمبر يا صديقي، دعني أخبرك أنت أجمل ما رأت عيني في الحياة بعد والدتي ووالدي رحمهما الله وليرحمني، رجال الدين في مصر مصابين بأشد التعصب، جاء في خيالي الآن انه فور تداول خبر انتحاري سيصفني الكثير منهم بالكافر، يوسف أتوسل إليك لا تدافع عني وقتها وفر كل ذلك هم لا يعرفون شيئا عن الألم، منحني الله روحا وها أنا بيدي أهلكها بكل إرادتي، هذا طبيعي لكل الذين في حالتي، ولست حزينا كوني لم أمارس الجنس الحقيقي، فقط افتخر بالصعاب التي تجاوزنها معا حتى دفع باسم يوسف واحمد إلى واجهة رجال الأعمال بمصر، دعني أذكرك بتفاصيل يومنا الأول في الشركة وأنا أرحب بك بطريقتي التي دائما ما جعلت الآخرين محطا للسخرية، وقفت أثرثر متوهما أن الروتين والفقر سبب اكتئابي الشديد :" هذا المكتب حولني عبدا .. اللعنة على كل شيء .. يا اله السماء فلترحمنا وترحم صديقنا الجديد، توقفت هنيهة من الزمن متمعنا في وجهك ذاهلا من آذناك الكبيرتان على ما أتذكر، في الحقيقة تصنعت ذلك لغرض في نفسي، ثم استأنفت أقول :"اه يا خالقي أجئت من السودان إلى مصر حتى أرى الرجل صاحب الآذنين الكبيرتان ! .. انظروا أيها الموظفين المغفلون يا من ولدتكم أمهاتكم حتى تعانون ها هو المحاسب الجديد ابن موطنكم حفيد مينا نارمر جاء ليزيد تعاستنا .. حسنا سأترككم لأعد لكم القهوة الساخنة .. نعم أتذكر على أثر ذلك سقط الجميع في نوبة ضحك هستيري، عدا أستاذ فتحي هذا الأحمق الذي فشل في ضبط مشاعره فانتهى زواجه بالفشل، لطالما راقبته لاسيما عندما تأتي نيرمين موظفة الحسابات لنقوم بالجرد الشهري، حتى تكاد عينيه تنفجران من الشهوة.. كان يلتفت كثيرا لمؤخرتها ، فتحمر وترتبك ورغم ذلك لم تفضحه ... أمس زرت برج القاهرة انه مكان يشرح النفس ويجعلك رائق المزاج .. الوداع يا صديقي" .. توقيع أحمد الزنجي.
مضى يومان على جلوس يوسف حول المدفئة بعد الواحدة منتصف الليل، فكر يومها في تغيير سيراميك الشقة واستبداله بخشب الباركيه الفاخر وكذا شراء شجرة كريسماس جديدة رغم أننا لازلنا في نوفمبر، كان يعتمر قبعة من الصوف مرتديا معطف احمد رحمه الله، كانت النيران تتأجج داخل المدفئة عندما راح يهذي:" سأحاول ألا أولول، سأشتري يخت جديد أيضا وابحث عن عروسة، أعلم لماذا تركني أحمد في ديسمبر، أنا الذي أخبرته بحبي لهذا الشهر .. ربما يريدني أن أتذكره دائما مع المسيح، يا له من أحمق .. نعم انه الشهر الذي لذت فيه بالفرار من المنزل عندما ذبح والدي الديك الرومي لعشاء الكريسماس أمامي رغم تحذير والدتي، وفي النهاية قضيت الكريسماس بمنزلي أنا الصغير وقتها صاحب الـ7سنوات... وقتها اختبأ الصغير بمراب سيارات وصلى :" يسوع نحن في ديسمبر ذكرى ميلادك تعالي وأنقذني .. في ديسمبر يأتي الطفل يسوع .. تعال وهات معك سانتا كلوز ."
يؤمن الرجل المجنون صاحب الخمسون عام، أن الإنسان يعتاد الحياة ويحبها مضطرا قبل أن يحبها بصدق، حتى انه قال لزوجته قبل أن تشرع في تطليقه بيوم :" لا فيض من حب هنا ، كراهية استبدت بنا وعرف الخوف حياتنا كأبينا ادم لاسيما أنا الحقير ولدت مختلفا، يقولون أن التمرد طريقنا للجحيم ، كل ما يمكنني استخلاصه من مفهوم التمرد انه قاس جدا،على أي حال لم تزل روحي على حالها غبية ومرهقة، سأظل اطلب المسيح حتى أخبره وجها لوجه أن الاهانة أكثر شرا من المرض ، وانه كان الرجل الأعظم على الإطلاق ، وان أكثر ما ميزه انه لم يكن نرجسيا ، وان ثمة أشياء صغيرة العن من الموت ، وان ملايين البشر وجب عليهم الصمت."
"تمت"
