مدحت بشاى
فى تعريف أهل اللغويات وأصول «لغة الضاد» للثقافة قالوا إنها لفظة جذرها فى العربية'> اللغة العربية ثلاثى الأحرف «ث، ق، ف»، ويرد الجذر بصورتين ومعنيين، الصورة الأولى «ثقَف» الشىء بمعنى صادفه وأدركه وظفر به وأخذه. والصورة الثانية «ثقف» بمعنى صار حاذقًا فطنًا كيسًا. نقول ثَقِفَ الكلام يعنى حذقه وفهمه بسرعة، وثَقَّفَ الرمحَ يعنى قوّمه وسوّاه وثقَّف الولد يعنى هذّبه وعلّمه. وثاقفه مثاقفةً: غالبه فغلبه فى الحذق.
إذا كانت الهوية تدل على الماهية الإنسانية، والثقافة تدل على ماهية الإنسان فكريًا وثقافيًا وحضاريًا، فإن الهوية تدل على الثقافة وتعبر عن مكوناتها وعناصرها ومتضمنة فى الثقافة فلكل ثقافة هوية، وثقافة من غير هوية عدم ولا وجود لها، وبمقدار تعدد وتباين الثقافات تتعدد الهويات وتتباين.
وبمناسبة الثقافة والهوية الإنسانية، لفت انتباهى وجود صورة ملونة لخمس تفاحات على صفحة صديق فيسبوكى شاب كــ«بوست» وكتب تحتها «خمس تفاحات غيرت التاريخ.. الأولى أكلها آدم فأخرجته من الجنة.. الثانية وقعت على رأس نيوتن، فكان اكتشاف ظاهرة الجاذبية الأرضية.. الثالثة اتخذها ستيف جوبز شعارًا لأكبر شركة حاسبات (أبل) التى غزت العالم كله بمنتجاتها الشهيرة الناجحة.. أما الرابعة والخامسة فكانت من نصيب العرب واللى عملوا منهم معسل (أبو تفاحتين).. إنجاز!».
ذلك «البوست» الساخر، ومثله المئات من تلك النوعية تنتزع ضحكات أولادنا وآهات التفاعل التى تترجمها الآلاف من «لايكات» الإعجاب والأكثر منها «تشييرات» النشر المثير بلغة وتعريفات التفاعل الإيجابى الفيسبوكى، قد لا يدرك الكثير منا ما تؤشر له مثل تلك «البوستات» من رسائل داعمة لنشر مشاعر الإحباط والروح الانهزامية لدى أطفالنا وشبابنا، وفى مواجهتها نرى مناهج وزارة التربية والتعليم تبالغ بشكل يثير فى أحيان كثيرة الشعور بالتبرم والانفصال عن الواقع عند اعتماد تدريس نصوص وأناشيد ومقطوعات نثرية ومناهج للتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية تنسج فى مجملها رسائل مبالغًا فى صياغتها عن عوالم أسطورية لبطولات الآباء والأجداد التى تدعمها أشعار وحكاوى الفخر والحماسة والوطنية بأمجاد الماضى، ولا يصدقها أبناء الجيل الحالى لركاكة العرض وهشاشة المتن التربوى.
ويبقى التحدى والسؤال الأهم: كيف سنواجه أو حتى نتكيف مع ما تطرحه مخرجات وإنجازات ماكينات الإنتاج الثقافى والحضارى والعلمى العالمى؟!
لقد انشغلت مواقع التواصل الاجتماعى بأمر عقد مقارنات أحوالنا بأحوال الغير، بدلًا من تقدير ما نمتلك وما نحن عليه والمشاركة فى وضع الخطط العلمية لاستثمار كل الإمكانيات المادية والعلمية لبناء إنسان المستقبل القادر على المنافسة والاشتباك الإيجابى مع الآخر المتقدم.
معلوم، أنه مع كل طلعة شمس يقدم لنا العالم معطيات جديدة لواقع مذهل يتشكل وينمو، الكثير من تلك المعطيات كفيل بتشكيل ملامح عالم جديد يفرض نفسه علينا، أو على الأقل قادر على تغيير الكثير من مفاهيمنا وتصوراتنا عن أمور كنا نراها ثوابت ونأمل أن نبنى عليها، فإذا ببعضهم يقدم لنا وللعالم البدائل الأفضل أو الأكثر قدرة ومنفعة للتعامل الأسرع أو الأقوى أو الأكثر نجاحًا وأغزر إنتاجًا إيجابيًا.
وهنا يبرز السؤال: هل لدينا ثقافة المواجهة الفاعلة والتعامل السلس البناء، أو ما يطلق عليها مقومات «المناعة الثقافية» الكفيلة بالتعامل مع المعطيات الجديدة والقادرة على عمليات الفرز الإيجابية ورفع المناعة الثقافية على المستوى الجمعى؟
وفى مواجهة ذلك السؤال عند طرحه على أرض الواقع، ينبغى إدراك أننا أمام مجموعة من التحديات فى مواجهة دنيا وعالم متعدد المفاهيم القيمية والعلمية، وعلينا الانفتاح الموضوعى ورفع شعار «نعم نستطيع»، دون التعرض لتيبس مفاصل الحركة بدعوى الحفاظ على الهوية والتراث والقيم والأصول. فالدول التى تمتلك «المناعة الثقافية والفكرية» قادرة على الفرز الإيجابى والتعامل العلمى الفاعل مع المعطيات الجديدة مهما كانت درجات الصعوبة الناشئة من حالات التباين بين القوى المتنافسة.
دون هوية اجتماعية وثقافية ينسلخ الناس عن بيئاتهم الاجتماعية والثقافية، بل عن أنفسهم تمامًا، ودون تحديد واضح للآخر لا يمكنهم تحديد هوياتهم الاجتماعية والثقافية، ويشير المفكر «برهان غليون» إلى أنه «لا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، فقبل أن تنهض لا بد لها أن تكون ذاتًا».
وعليه، أرى أن مؤتمرات الشباب الحالية باتت تمثل أحد أشكال المواجهة الرائعة بما تتيحه للانفتاح على دنيا المعرفة وتواصل شبابنا الرائع بشباب العالم وتبادل الرؤى والثقافات، فإن مشاركة شباب أكثر من ١٠٠ دولة فى منتدى شباب العالم، تعبر عن قدرة الدولة المصرية والقيادة السياسية على احتواء الشباب ورعاية أفكارهم، نظرًا للثقل الموضوعى لجدول أعمال المنتدى، بالإضافة إلى مناقشة القضايا التى تشغل الرأى العام سواءً على المستوى المحلى أو الدولى.
نعم، السياسة هى فن الممكن، لكنها أيضًا إبداع الحالمين بمجتمعات أفضل. ذلك أن السائس هو الذى يقدم الحل، وليس دوره تقديم مشكلات مؤجلة فى شكل حلول.. ولذلك واجه الرئيس السيسى شبابنا متعجبًا «إنتو بطلتوا تحلموا ولا إيه؟».. نعم ده لو بطلنا نحلم نموت.
نقلا عن الدستور