فاطمة ناعوت
كالعادة، مرَّ عيدُ ميلادِها دون أن يتذكّرَها أحدٌ ودون أن تُوقد لها شمعةٌ! الجميلةُ الساحرةُ الآسرةُ التى لا أحدَ يُحبُّها. من فرط جمالها، يكرهها العشّاق! ثمّة درجاتٌ من الجمال يجعلُ الناسَ يهابون ويهربون. درجاتُ الجمال العُليا تخيفُ فيؤثرُ الناسُ الفرار، ثم يتخفّون خلف الأشجار يرشقون الجميلةَ بالحجارة، ويشدّون الأقواس لتنطلقَ السهامُ تخترقُ قلبها.
١٨ ديسمبر ١٩٧٣ هو يومُ الاحتفال بها. ليس يومَ ميلادها بالطبع، فقد وُلدتِ الجميلةُ قبل الأزمان. ولكنه اليومُ الذى انتبه فيه العالمُ بأسره إلى سحرها وذكائها وغنجِها وألغاز أسرارها وسعة ثقافتِها وشساعة موسوعيتها، فاعترف بها الدبلوماسيون لتكون إحدى فاتنات العالم الست، المعتمدة رسميًّا فى الأمم المتحدة. أظنُّ أن القارئ الكريم قد خمَّن عمّن أتكلم. إنها اللغةُ العربيةُ التى أجلَّها العالمُ وسكر بحلاوة كأسها، ويتبقّى أن يُجلَّها الناطقون بها. فى مثل هذه الأيام عام ١٩٧٣، أصبحتِ اللغاتُ الست المُتحدَث بها رسميًّا فى الأمم المتحدة هى: الروسية، الصينية، الإسبانية، الإنجليزية، الفرنسية، ثم العربية.
اختار اليونسكو يوم ٢١ فبراير من كلِّ عام، يومًا للاحتفال بعيد «اللغة الأمّ» لدى الأمم المتحدة. وهو اليوم الذى تحتفل به كلُّ دولة من دول العالم باللغة الأمّ الخاصة بها. فاختار الروس يوم ٦ يونيو، وهو يوم ميلاد الشاعر الروسى «ألكسندر بوشكين»، واختار الصينيون ٢٠ إبريل، ذكرى «سانج چيه» مؤسس الأبجدية الصينية، واختار الإنجليز ٢٣ إبريل يوم ميلاد عظيم العالم الأديب الإنجليزى وليم شكسبير، بينما اختار الفرنسيون ٢٠ مارس المتزامن مع اليوم العالمى للفرانكفونية، فيما اختار الإسبان ٢١ أكتوبر، يوم الثقافة الإسبانية. أما نحن، الناطقين بالعربية، فلم نختر مثلا يوم ميلاد المتنبى، أو طه حسين، أو أبى العلاء المعرّى، أو أبى الأسود الدؤلى، أو الخليل بن أحمد الفراهيدى، أو سيبويه، أو ابن رشد، أو أدونيس، أو درويش، أو مئات غيرهم من عمالقة العربية، بل وقع اختيارنا على يوم ١٨ ديسمبر ليكون عيدًا عالميًّا للغة العربية، وهو ذكرى اعتماد العربية لغةً رسمية فى الأمم المتحدة عام ١٩٧٣، بعد محاولات دؤوب بدأت منذ خمسينيات القرن الماضى! وكأننا لا نعترفُ بلغتنا الأم الجميلة، إلا يومَ اعتراف العالم بها!، الأمرُ مُهينٌ منذ بدايته، ويشير بجلاء إلى عدم احترامنا للغة التى نتكلّم بها للأسف! ولهذا لا نندهشُ أن نُصدَمَ طوال الوقت بإعلاميين وكتّاب يُخطئون فى اللغة ويلحنون فيها وكأنهم يتكلّمون لغةً أجنبية لا يتحدثون بها منذ ميلادهم!.
ولأننى أودّ أن يصفو مقالى هذا للاحتفال والاحتفاء، لا للنقد والتباكى على ما وصلت إليه لغتُنا الجميلة من حالٍ تعسة على ألسن الناطقين بها، فلن أخوض فى ركاكات الإعلاميين وأخطائهم الفادحة التى تصمُّ آذاننا ليل نهار، ولا انهيار مستوى معلّمى اللغة العربية وعجزهم عن الأخد بأيدى أبنائنا ليُحبّوا لغتَهم ويتقنوها، إنما سأذكر «الإشراق» الذى أصادفه بين «أُميّين» لا يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم قادرون على ارتشاف سحر العربية، دون عِلمٍ أو دراسة.
اذهبْ إلى المزارعين البسطاء فى صعيد مصر، وأنصتْ إليهم وهم يدندنون فيما يضربون فؤوسهم فى طمى الأرض ليخرجوا كنوزَها الخبيئة. تجدهم يحفظون عن ظهر قلب قصائد ابن الفارض، الشاعر الصوفى الأكبر، بعدما سمعوها بصوت الشيخ ياسين التهامى، المُنشد الدينى الشهير ابن قرية منفلوط المصرية. بل ويحفظون، بفهم وإدراك حقيقيين، قصائد أحمد شوقى وأحمد رامى وجورج جرداق وأبى فراس الحمدانى وغيرهم مما غنّت لهم أم كلثوم. وإن سألتهم عن مكامن المجاز والاستعارات أجابوك بفطرتهم بما يدهشك من معارف.
أيها القارئ العزيز، استسلمْ لسحر اللغة العربية، ودعها تتسلّلُ داخل روحك وتُسرّبُ إلى عمقك أسرارَها، تمامًا كما تستسلم لحبيبتك لكى تُذيقك من مفاتنها ما تجهل. أيتها الجميلةُ المغدورة المنسية، أيتها اللغة العربية الساحرة، أقولُ لكِ فى عيدك: كلّ سنة وأنت طيبة وجميلةٌ أيتها الفاتنة المهجورة. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن، ولمن يحبُّ لغةَ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم