عادل نعمان
لما يقال إن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، ليس معناه أن أهله والقائمين عليه يمنعون عجلة الزمن من اللف والدوران، أو يقفون به عند تاريخ معين بذاته كالصنم الصلد، أو يثبتونه عند القرون الأولى دون جريان أو سريان كالماء المتجمد، أو يتركونه يمضى إلى حال سبيله، محايدين أو مخالفين أو متخاصمين أو محاربين له، حتى يكون مواكبا ومتفقا وواقفا على ما جاء به الأوائل وما أبقى عليه السلف. وليس معنى أن الدين الإسلامى دين عالمى أن العالم كله يوما ما سيصبح كله مسلمين ويتركون أديانهم خوفا أو طمعا، أو يجبرهم المجاهدون ومن على شاكلتهم على دين الإسلام، بل يجب أن يفهم هؤلاء أن من مهام الدين أن يتجاوب ويتشارك مع الجميع، ويتحرك مع التقدم العلمى والحضارى ويتفاعل معهما، ويؤمن بالحتمية التاريخية وضرورتها، ويدرك فكرة الزمن وقيمة وأهمية الوقت، وما يسببه التخلف الزمانى والمكانى من كوارث، وأن يحيا مع الأديان الأخرى دون تحقير أو ازدراء، فليس له الحق في نقدها أو نقضها، والحق أقول لو تصادم معهم أو اعتزلهم يكون دينا محليا لجماعة أو لقبيلة بذاتها محدودة الزمان والمكان، لا يتجاوزهما، ولا يلزم أحدا غيره به، ولا يرفع أنصاره راية العالمية، أو يتشدقون بصلاحيته لكل زمان ومكان.
إلا أن الحقيقة أن فريقا من المسلمين قد أخذوا أمر الدين على قدر جهلهم وطمعهم في الدنيا، وللأسف كان لهذا الفريق ولموقعه ومكانته نصيب وحيز كبير من عقول البسطاء والجهلاء، تكاثرت أعدادهم، وأورثوا هذا المفهوم للغالبية العظمى من أبنائهم قديمهم وحديثهم، وأوقفوا عجلة الزمن عند أسلافهم وأجدادهم، لا تدور ولا تتقدم، على أنهم قد علموا من الدنيا مبتدأها ومنتهاها، وفاتحتها وخاتمتها، وأن مرجعية الأعمار والخلائق والأحكام لا تدور إلا في زمانهم وأوانهم، دون تطوير أو تحديث أو تأويل جديد، فلما يؤكدون أن الرزق بيد الله دون ضوابط، ويوافق هذا طبيعة الكثير من الكسالى والمتخاذلين مسلمين أو غير، في زمن العمل والكد والاجتهاد، وفى مكان قد طفح بالبشر وفاض، ويلتهم الأخضر والأرض ولا يكتفى، ويجوعون ويمرضون، فإنهم يحرضون على الخلفة عمال على بطال ودون حساب، ولا يكتفون بل ويزوجون القاصرات من بناتهم تحت هذا الغطاء، حتى يزيدها وحلا على وحل، ولما يكون هذا الطرح قائما في ظل الأزمات الطاحنة وقلة الموارد، يصبح الزمان الذي يتحدثون عنه ليس هو الزمان الذي نعيشه بل هو زمن الكهف.
ولما ينهك رب الأسرة المعدم الفقير، وتتغير الطبيعة والتركيبة والخصائص السكانية للدولة حين تتخطى نسبة هؤلاء الفقراء الطبقات الغنية وتتفوق عليها، فتتآكل المجتمعات وتصيبها آفات مجتمعية خطيرة، ويصبح الفقر والمرض والجهل قدرا ومكتوبا ومشيئة إلهية، فلا تفشل الأمم وتجوع فقط، بل تفنى وتموت. ولما يكون كره غير المسلم أو من يخالفك وبغضه حلالا ومطلوبا وتكليفا وواجبا ومقبولا ومرصودا عند أصحاب النفوس الضعيفة والمريضة، ولما يتحول المجتمع إلى غابة يأكل فيها القوى الضعيف، ولا نعيش حاضرا متزنا أو مستقبلا، بل نعود إلى عصور الهمجية الأولى وغزو القبائل بعضها على بعض، فإن الصدام قادم والحرب منصوبة، العالمية ليست صداما بل تفاعلا وتجاوبا واندماجا. الزمن عند هؤلاء لا يخضع لقانون التواصل والتتابع، ومن ثم تأثير الماضى على الحاضر وكليهما على المستقبل، وعلى الأجيال المتعاقبة التي تتعايش وتتفاعل بعضها البعض،، ولا يدركون تأثير هذا الانفصال الزمنى بين مراحل التاريخ المتعاقبة، والتراكم الحضارى والعلمى والمعرفى أيضا، حتى في البلد الواحد، والجيل الواحد، هذه الفجوة وهذه المخاصمة وهذا الفصل، بين التاريخ والأجيال قد كبلت القدرات، وعطلت الطاقات، وأحبطت الطموحات، وحبست العقول في أدراج من الجهل والتخلف، فعجزت عن ملاحقة العلم والتطور، وأصبحت أسيرة الأقدار والنصيب والمشيئة، فرضيت وخنعت واستكانت، ودخل عقل الكثير من المسلمين السجن إما باختياره ورغبته، وقطع نفسه عن الحاضر يسبح في بحاره الخاصة وفى فضائه الخامل، عاجز عن الملاحقة والمتابعة، معزول ومهزوم، لا يؤثر ولا يتأثر، إلا من أوتى القدرة على الخروج من هذا السرداب المظلم، وكسر حاجز التاريخ واللحاق بالمستقبل، ولا حل سوى بهذه المحاولات الفردية وهذا التمرد على عزل تاريخنا القديم عن الحالى، وتخطيه الأسوار، واللحاق بركب العلم والحضارة دون هذه الأغلال، ولا يحكمنا سوى العلم والعمل، وما كان قديما وعاشه الأجداد من أحكام قد تخطاه الزمن، وتجاوزته المصالح، وخالفته حركة الزمن والتاريخ، فلا يصح أن نباهى العالم بكثرة الخلفة بجيوش من العواطلية الجهلاء الضعفاء، فقد كانوا يوما جنودا للحروب والغزو يصلحون لجر العربات واستخدام السيوف والرماح، أما مباهاة اليوم في الكفاءة العلمية والتعليمية والثقافية والفنية والرياضية، الواحد بعشرة، وهو ما نقول عليه مقاصد، والمقاصد تتغير مع الزمن والتاريخ، أو قل عليها مصلحة الأمة، والمصلحة تدور معها الأحكام والنصوص والمرويات أو تتخطاها وتتجاوزها وهذا حق وواجب.
نقلا عن المصرى اليوم