مراد وهبة
قول مأثور عن المؤرخين أن القرن التاسع عشر هو عصر انفتاح العقل العربى على العقل الأوروبى. يقول لويس عوض، فى كتابه «تاريخ الفكر المصرى الحديث»، إنه لا مناص من اعتبار حملة بونابرت على مصر عام 1798 وما تلاها من اتصال مستمر بين مصر وأوروبا عاملًا فاصلًا فى تكوين الأفكار السياسية والاجتماعية بالمعنى الحديث، فى مصر بوجه خاص، وفى العالم العربى بوجه عام. ومغزى هذه العبارة أن العقل العربى، فى القرن التاسع عشر، وجد نفسه فى مواجهة عقل غربى متمثل فى ثقافة فرنسية تنكر الحق الإلهى للملوك، فتؤسس دولة علمانية لصالح الطبقة البورجوازية.
والسؤال إذن:
ما نتيجة هذه المواجهة؟
فى كتاب «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوى، تحفظات وتنبيهات وتحذيرات إلى القارئ تدور على سوء الطوية التى يتسم بها العقل الأوروبى، ولهذا فهو يدعو إلى الأخذ بالفنون العلمية، ويحذر من العلوم الحكمية، إذ فيها
«حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، فحينئذ على مَن أراد الخوض فى لغة الفرنساوية، المشتملة على شىء من الفلسفة، أن يتمكن من الكتاب والسُّنة حتى لا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه».
وفى كتاب «المصريون»، يبحث قاسم أمين عن هوية مفقودة، وهى الهوية الإسلامية، ويقارنها بالهوية المسيحية فى أوروبا، فالمسيحية، فى رأيه، تقضى على العقل وتدعو إلى العبودية، وهى لذلك عدو الإنسان، ولهذا فمن الطبيعى أن يكون التقدم الأوروبى مرهونًا بحركة لا دينية، أى بحركة علمانية. والإسلام بعكس المسيحية، يأخذ بالعقل، ويحرر العبد، ولهذا فمن الطبيعى أن يكون التقدم العربى مرهونًا بدعوة دينية. ومن أجل ذلك فإن قاسم أمين حين يعرض لتقدم الفنون والآداب فى العالم الإسلامى يرده إلى أسباب دينية، وحين يعرض لتأخرها يرده إلى أسباب اجتماعية وسياسية. ومعنى هذا أن العقل العربى هو عقل دينى فى مجال التقدم ولكنه عقل علمانى فى مجال التخلف. ثم إن قاسم أمين يرفض فكرة الإصلاح الدينى علاجًا للانحلال الحضارى لأنه يرى أن الإسلام لم يتلوث فى أصوله كما تلوثت المسيحية فى العصر الوسيط بسبب عصمة البابا وصكوك الغفران.
وفى كتاب «ابن رشد وفلسفته»، يتخذ فرح أنطون من ابن رشد منطلقًا للدعوة إلى العقل العلمانى. يتضح ذلك من إهدائه الكتاب إلى عقلاء الشرقيين فى الإسلام والمسيحية. ويقصد أولئك العقلاء فى كل ملة وكل دين فى الشرق، والذين عرفوا مضارّ مزج الدنيا بالدين فى عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبًا فى مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًا ومجاراة تيار التمدن الأوروبى الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعًا وجعلهم مُسخَّرين لغيرهم. ومغزى هذا الإهداء أن العلمانية هى علامة التمدن الأوروبى، وهى لابد من أن تكون علامة تمدن الشرق إذا أُريد له التمدن. وفى رأى فرح أنطون أن فلسفة ابن رشد رمز على العلمانية، ولا أدَلَّ على ذلك من أن فريدريك الثانى فى القرن الثانى عشر كان السند الأكبر لمترجمى فلسفة ابن رشد فى أوروبا. وبسبب ذلك حورب فرح أنطون من قِبَل الشيخ محمد عبده ورشيد رضا.
نقلا عن المصرى اليوم