كتب:سليمان شفيق
تمنيت أن يفيض النيل من القوصية إلى القاهرة بتلك الروح وبهذه الصالونات الثقافية
منذ الصغر كانت أسرتى تذهب إلى دير المحرق بالقوصية، وكأنها تذهب إلى الأراضى المقدسة، ومنذ سبعينيات القرن الماضى كانت القوصية مهدًا لحركات ثقافية وسياسية، ومنها اليسار المصرى وحزب الوفد وغيرهما، وكانت هناك علاقة قوية بين المعارضة اليسارية والزميل والصديق جمال أسعد، الذى كان ولازال يستضيف أعلام المثقفين والسياسيين المصريين، ومؤخرًا ظهرت أجيال جديدة تستكمل تلك المسيرة الوطنية السياسية، ومن أبرز تلك الوجوه المحامية والناشطة الشابة هند جوزيف التى تقبلت منها دعوة كريمة بالحديث عن وحضره لفيف من المثقفين والمزارعين ورجال الأعمال والنشطاء السياسيين والاجتماعيين، رجالًا ونساء، فتيات وشبابًا، مسلمين ومسيحيين، وعلى مدى أربع ساعات امتد الحوار من القوصية إلى فلسطين والشام والغرب الأمريكى، وأغلب بلدان العالم، تعددت التساؤلات والتعليقات، ويخدم علينا الأستاذ روميل صداق وزوجته وأطفالهما هند وهيتى، والسيدات هدى ونيرمين وجورجيت جوزيف، الجميع يقتسمون الحوار والطعام، أدركت كل معانى الاستنارة من لمسات الحضور، تأكدت من عراقة العائلة الممتدة من قاعة الندوة فى صحن المنزل إلى عمق روح المحبة بين الحضور، الأمر الذى ذكرنى بالصالونات الارستقراطية فى زمن التنوير، وكأن صالون هند جوزيف هو صالون مى زيادة.
لم أشعر للحظة بالغربة من الحضور المتعدد الأعمار والأديان، ركز كبار السن على ذكرى حرب أكتوبر، والصراع العربى الصهيونى، وتوجه الشباب إلى مناقشة الإرهاب والقضايا الداخلية والأزمة الاقتصادية، اختلفوا واتفقوا فى مودة تفتقدها صالونات مثقفى العاصمة، شعرت أن الجميع يجيدون آداب الحوار، وتقديم الحلول.. كنت أستمتع بالحوار الذى أثبت عراقة القوصية، كمدينة كانت عاصمة الإقليم 14 من أقاليم مصر الوسطى، هؤلاء المجتمعون أجدادهم أوقفوا زحف الهكسوس على الصعيد، وحموا المملكة المصرية من الانهيار، وبحكمة تحالفوا مع أمراء طيبة لصد الهكسوس، وكانت أولى المعارك هناك، وتوجد لوحة تخلد انتصارهم على الهكسوس بمنطقة البرية فى زرابى القوصية، المنطقة الوحيدة المتبقية من القوصية القديمة، والتى بنيت عليها القوصية الجديدة، وعلى مرمى البصر توجد قرية «مير»، التى تضم مجموعة من المقابر المنحوتة فى جسم الجبل، لتكون «جبانة» عاصمة الإقليم لأمراء وحكام المقاطعة الرابعة عشرة، ومعبودها الإله حتحور، تقع غرب قرية مير- مركز القوصية، وتضم مجموعة من المقابر المنحوتة فى جسم الجبل لتكون «جبانة» عاصمة الإقليم.
الدير المحرق وأقدم كنيسة فى العالم، أنشئ هذا الدير فى القرن الرابع الميلادى بسفح الجبل الغربى، والذى كان يسمى قديمًا جبل «قسقام»، وسمى المحرق بسبب حرق النباتات والحشائش الضارة لاستغلال أراضيها للزراعة، وعندما أنشئ دير العذراء أصبح حاملًا لاسم هذه المنطقة، عندما شيد الأنبا «باخوميوس» سورًا ارتفاعه 12 مترا حول الكنيسة، فتحول إلى دير، وليشبه فى طرازه سور كنيسة المهد فى فلسطين، وترجع أهميته التاريخية من بين نحو 26 مكانًا ارتحلت إليها العائلة المقدسة فى مصر مكثت فيه نحو 185 يومًا، وأُنشئ مكانه الكنيسة الأثرية التى تعتبر أقدم كنيسة دشنت فى العالم المسيحى، كما يضم الدير الحصن الأثرى، ويعتبر دير المحرق أحد الأديرة التاريخية القليلة التى تقام فيها الصلوات باللغة القبطية القديمة، ويعتبر أهم مكان لأداء طقوس الديانة المسيحية بعد كنيسة المهد فى فلسطين. وفى الطريق للعاصمة ، تمنيت أن تكتشف النخب القاهرية وصناع القرار مثل هذه السيدة هند، وتلك العائلة الجوزيفية، زيادة تمنيت أن يفيض النيل من القوصية إلى القاهرة بتلك الروح، ويموج على امتداد النهر ما يجرى من صالونات ثقافية وسياسية بالقوصية، وبيت تلك العائلة، لكى يعرف الكل أن الوطن بخير.