يوسف سيدهم
أستئأنف اليوم استعراض القضايا ذات الطابع العام, التي نحملها معنا من العام المنصرم إلي العام الجديد.
فبعد أن تناولت قضية الإصلاح الحزبي في مصر, أتناول قضية تحرير إيجارات الأماكن غير السكنية. وهي قضية مزمنة تنتمي إلي ملف الإيجارات القديمة, الذي يضم الأماكن السكنية وغير السكنية, والذي بموجبه تم تجميد الإيجارات القديمة لمدة تناهز السبعين عاما وما مثله ذلك من العصف بحقوق الملاك الأصليين وتحويل المستأجرين إلي ملاك مقنعين… وكانت هناك محاولات تشريعية متتالية عبر السنوات العشرين الماضية للتصدي لهذا الواقع المريض بتحرير القيمة الإيجارية ورفع الغبن عن الملاك والعودة, تدريجيا, إلي موازين العرض والطلب باعتبارها القانون الأزلي للسوق, لكن كان من الواضح أن جميع تلك المحاولات تحطمت علي صخرة ضعف الإرادة السياسية وإحجام صانع القرار عن إثارة فئة المستأجرين -خاصة مستأجري الأماكن السكنية- فانحصر الأمر في إصدار تشريعات وقتية تسمح بتحريك إيجارات الأماكن غير السكنية بقيود وبنسب زيادة تدريجية لكن دون العودة إلي كامل تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر وإطلاق قانون السوق في العرض والطلب.
ولاحت في منتصف العام الماضي بشائر تشير إلي بسط عدالة تأخرت كثيرا بتحرير إيجارات الأماكن غير السكنية حين تقدمت الحكومة إلي مجلس النواب بمشروع قانون لتعديل أحكام قانون الإيجارات القديمة للأماكن غير السكنية ووافقت عليه لجنة الإسكان والمرافق بالمجلس التي أكد أعضاؤها أن الهدف من القانون هو تحقيق المصلحة العامة وليس مصلحة فئة علي حساب فئة أخري وذلك احتراما للدستور الذي أكد عدم جواز تمييز فئة علي فئة.
مشروع القانون الذي وافقت عليه اللجنة ينطبق علي عقود الإيجارات القديمة لجميع أوجه النشاط المهني والتجاري والخدمي والحرفي, وينص علي تطبيق فترة انتقالية مدتها خمس سنوات تبدأ من تاريخ صدوره بزيادة القيمة الإيجارية بمقدار خمسة أمثال القيمة المحددة بعقد الإيجار وذلك لمدة سنة واحدة وتسري بعدها زيادة سنوية مقدارها 15% لكل سنة من السنوات الأربع التالية, وعلي أن يتم إنهاء عقد الإيجار وإخلاء العين وإعادتها إلي المالك بعد انقضاء الفترة الانتقالية للسنوات الخمس, إيذانا بتحرير القيمة الإيجارية تماما وإطلاقها لتخضع لمعايير العرض والطلب وللاتفاق بين المالك والمستأجر.
وجاء في تعقيبات أعضاء لجنة الإسكان والمرافق بمجلس النواب حين وافقت علي مشروع القانون أنه حال صدوره وتطبيقه سوف تنسحب أحكامه علي نحو ثلاثة ملايين وحدة غير سكنية خاضعة لقوانين الإيجارات القديمة, الأمر الذي من شأنه تصحيح أوضاع كثيرة مغلوطة ومتراكمة أهمها رد الاعتبار للثروة العقارية المهملة عبر سنين طويلة وتوفير موارد عادلة تمكن ملاكها من العودة لصيانتها وتجديد مرافقها التي تركت تتآكل وتتهرأ وتذوي.. ولعلنا إذا تحدثنا عن إقالة الثروة العقارية من كبوتها نتحدث عن جانب مهم من جوانب الخطة القومية للإصلاح الاقتصادي.
وحتي لا نسلط الضوء, فقط, علي العدالة التي يبسطها القانون وحدها دون الانتباه إلي الفاتورة المترتبة عليه والملقاة علي عاتق مستأجري الأماكن غير السكنية -حسب طبيعة نشاطها سواء كانت مهنية أو تجارية أو خدمية أو حرفية- أعيد ذكر ما كتبته هنا بتاريخ 2019/6/30 تحت عنوان: تحرير إيجارات الأماكن غير السكنية.. عدالة تأخرت ولها تبعات فقد أوضحت الآتي: بصدور قانون تحرير القيمة الإيجارية للأماكن غير السكنية تعود السيادة -بعد سنوات خمس من تطبيقه- إلي القانون الأزلي للسوق قانون العرض والطلب, لكن يلزم الأخذ في الاعتبار أن ذلك بالقطع سيكون له ردود أفعال وتأثيرات تضخمية سوف يشعر بها المواطن المستهلك لسائر أوجه تلك الأنشطة, فمن الطبيعي أن نتوقع أن يتم تصدير كل ارتفاع في القيمة الإيجارية للمكان- مكتبا كان أو عيادة أو شركة أو محلا تجاريا أو ورشة أو غيره- ليضاف علي قيمة الاستشارات أو الخدمات أو السلع ليتحملها المواطن… ويجب أن نتفهم ذلك ولا نفزع منه ونترك لمعايير المنافسة في السوق أن تتولي ضبطه وتصحيحه إذا انفلت.
لكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن, فقد انفضت الدورة البرلمانية لدور الانعقاد الماضي دون التصويت النهائي علي مشروع القانون فتأجل إصداره لدور الانعقاد الحالي, الأمر الذي تأكد لدي بدء هذا الدور في 7 أكتوبر الماضي حين تم توزيع الأجندة التشريعية علي اللجان النوعية وتضمن ذلك المشروع الذي نحن بصدده والذي أحيل إلي لجنة مشتركة من لجان الإسكان والخطة والموازنة والشئون الدستورية والتشريعية, وكما حمله مجلس النواب إلي دور انعقاد جديد ها نحن نحمله معنا إلي العام الجديد بأمل أن نشهد إقراره وإصداره ليعيد عدالة تأخرت كثيرا.. حتي وإن كانت لها تبعات.