د. منى أبوسنة
إذا كان لفظ «ماما» يعبر عن الاحترام والسمو تجاه المرأة فلماذا يستخدم نفس هذا اللفظ للتعبير عن معانى الامتهان والتحقير وحيث يرد لفظ «الأم» فى الشتائم مقرونا بالجنس فى أغلب الأحيان؟.
فى اللغة العربية يقال «شوّههُ» أى قبّحَة، ونشتق من هذا الفعل الاسم بالجمع فنقول «تشوهات» أى تقبيحات. وبهذا المعنى يمكن القول بأن الإنسان يمكن أن يصاب بتشوهات وهذه التشوهات قد تكون جسمية وقد تكون عقلية. التشوهات الجسمية، ناتجة إما عن عاهة أو مرض خبيث أو عن حوادث.. ومعالجتها طبيا قد تكون ممكنة أو لا تكون. وإذا لم تكن ممكنة فإن بقاء التشوهات لا ينفى وجود الجسم ولكن يجعل الجسم مختلفا ومغايرا. أما التشوهات التى تصيب العقل فهى لا تنفى العقل فقط وإنما تنفى الإنسان من حيث هو إنسان أى أنها تلاشى كينونته التى تميزه عن الحيوان.
دارت فى ذهنى هذه الخواطر وأنا أتأمل بعضا من التشوهات التى أصابت العقل المصرى فى العشرين عاماً الماضية وهى متعددة الأشكال ولكنى أنتقى شكلا واحدا على سبيل المثال لا الحصر. وهذا الشكل يظهر فى اللغة التى يستعين بها العقل المشوه للتعبير عن أفكاره المشوهة.
فاللغة ليست مجرد وعاء للفكر ولكنها تجسيد للوجود البشرى فى شتى أشكاله. فالعقل المشوه يتصور القبح جمالا، والتحقير احتراما، والدناءة شهامة، والمراوغة براعة، والنصب تجارة، والبلطجة قوة، والعلم دينا، والدين علما، والصراخ نضالا، والركاكة شعرا غنائيا، والبلاهة فنا، والتخلف العقلى إبداعا. وهنا أذكر مثالا لأحد هذه التصورات المغلوطة وهو تحول التحقير إلى احترام، وأستدعى نموذجا صارخا من حياتنا اليومية ويتمثل فى ترديد لفظ «يا ماما». الثلاثة مقاطع فى هذا اللفظ تكاد تكون القاسم المشترك الأعظم للعبارات التى ترد على لسان الشعب المصرى بمختلف فئاته، فقد اعتدنا فى ذلك الزمان الجميل، زمن ما قبل التشوهات، أن نوجه هذا اللفظ «يا ماما» وقرينه «يا بابا» إلى الأطفال تعبيرا عن المودة واللين أحيانا، وعن الصرامة والشدة أحيانا أخرى. والسبب فى ترديد هذا اللفظ مردود إلى أنه قريب من الألفاظ التى يستعين بها الطفل فى سنواته الأولى فعندما نتودد إلى الطفلة نقول لها «خليك حلوة يا ماما» و«اسمعى الكلام يا ماما» وعندما نزجرها نقول لها «لأ، كده عيب يا ماما».
أما اليوم فى زمن التشوهات، فهذا اللفظ المحبب لم يعد يوجه إلى الطفلة، ولكنه يوجه إلى المرأة بالغة الرشد أيا كانت مكانتها فى المجتمع، مع تغيير مضمونه ومعناه فيتحول من المودة إلى التحقير لأن المخاطب هنا «بفتح الطاء» ليس الطفل وإنما المرأة بالغة الرشد ولذلك فإن معنى هذا التحول هو وضع هذه المرأة فى مكانة الطفلة فاقدة الأهلية. والمفارقة هنا هى أن هذا العقل المشوه يزعم أن هذا التحقير احترام بدعوى أن لفظ «ماما» يعبر عن الأمومة.
وهنا يحق لنا التساؤل إذا كان لفظ «ماما» يعبر عن الاحترام والسمو تجاه المرأة فلماذا يستخدم نفس هذا اللفظ للتعبير عن معانى الامتهان والتحقير وحيث يرد لفظ «الأم» فى الشتائم مقرونا بالجنس فى أغلب الأحيان؟.
وهنا يحق لنا التساؤل مرة أخرى: ما معنى هذا التناقض الحاد؟
هذا التناقض الحاد ملازم للعقل ويتسم به العقل فى المجتمعات التى تحقر من شأن المرأة ولكن ما يهمنا هنا هو المجتمع المصرى، أو بالأدق، العقل الجمعى للمجتمع المصرى، أى أسلوب التفكير عندما يتجسد فى اللغة والسلوك اليومى.
وأتساءل للمرة الثالثة: ما هى جذور هذا التشوه؟
فى تقديرى أن هذه الجذور تعود إلى السبعينيات من القرن الماضى عندما تحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد عقلانى محكوم بالإنتاج إلى اقتصاد طفيلى، مما أدى إلى إفراز ظاهرتين متلاحمتين هما الرأسمالية الطفيلية، والأصولية الدينية طبقا لتعريف مراد وهبة.
وقد تحالف كل من تيار الرأسمالية الطفيلية وتيار الأصولية الدينية فى نظرتهما الدونية للمرأة. فقد ارتأى تيار الرأسمالية الطفيلية أن المرأة سلعة تباع وتشترى وأن قيمتها فى مظهرها الخارجى وفى مفاتن جسدها الذى يثير الغرائز فى نفوس الرجال وعلى الضد من ذلك، اعتبر تيار الأصولية الدينية أن المرأة عورة ومثيرة لشهوات الرجال، لذا وجب سترها بملبس معين. وعلى الرغم من الاختلاف الظاهرى بين التيارين فإنهما يتفقان فى نظرتهما للمرأة باعتبارها مجرد جسد بلا عقل. ومن حيث إنها كذلك فإن وجودها فى العالم ودورها فى المجتمع يتحددان بمدى استجابتها لتلك النظرة وبقدرتها على إشباع ما يترتب على هذه النظرة من متطلبات وفى هذه الأثناء لم تتأخر وسائل الإعلام فى تدعيم تلك النظرة للمرأة وذلك بأن روجت لها فى برامجها المسموعة والمرئية. وهكذا هيمن ما يمكن تسميته «الرأى الأوحد» أو بالأدق، النظرة الأحادية السالبة لإنسانية المرأة.
ومن المفارقة أن الكُتاب من الصحفيين والمثقفين لا يكفون عن ادعاءاتهم باحترامهم للمرأة وتقدير مكانتها فى المجتمع، وذلك من منطلق الدعوة إلى تأسيس التنوير فى الثقافة المصرية. بيد أن تلك الدعوة تظل محض وهم فى حالة عدم تجاوز المفارقة بين ادعاء احترام المرأة والواقع الاجتماعى المهين للمرأة ومن الجدير بالتنويه أن هذه المفارقة قد تفاقمت وتراكمت آثارها عبر أجيال عدة حتى وصلت إلى حالة الأزمة والسؤال الأخير: هل من مخرج من الأزمة؟.