بقلم / ماهر ميشيل
كلما ارتفعت الأصوات كلما كان ذلك يعبر عن فراغ داخلي، كما في آلة (الديرامز) الإيقاعية كلما كان الفراغ كبيراً كان صوت "الطبلة" عالياً ومرتفعاً.
وأيضاً النحاس والصنوج (الدفوف) تصدر أصواتاً عالية وإذا لم يكن مصاحبا لها عزف موسيقى على آلة وترية أو آلات الكيب وورد مثل الأورج، تحول إيقاعها وصوتها المرتفع إلى مجرد "ضوضاء".
فإذا قارنت بين شوارعنا وشوارع العالم المتحضر ستجد أنه كلما زاد التحضر زاد الهدوء وكلما زاد التخلف زادت الضوضاء.
فعلى سبيل المثال استعمال "آلة التنبيه" في السيارات رغم قانون المرور إلا أن القانون لم يغير من سلوكنا في شيء فتجد في إشارة مرور واحدة ما يقرب من الخمسين سيارة كلهم يطلقون آلات التنبيه بأعلى صوت وكأنهم سيفتحون الطريق كلما ارتفعت أصوات آلات التنبيه.
في الأسواق التجارية نجد مجموعة من المحلات وكل محل منهم يملك كاسيت بسماعات ضخمة الحجم يضعها خارج المحل وكل محل يتسابق مع الآخر لتكون صوت أغنيته أعلى من صوت أغنية المحل المجاور له، لماذا ؟؟ لا نعلم، فقد يعتقد أن المحل ذو الصوت الأعلى سيجذب الزبائن أكثر من المحلات الأخرى.
هذا ناهيك عن أصوات المقاهي العالية والكاسيتات والموبايلات والترام وصبيان الميكروباصات الذين ينادون بأعلى أصواتهم، كل هذه معاً تصنع إزعاجاً رهيباً وكأننا في "فرح طرش" الكل يتسابق ليكون صوته الأعلى "مولد وصاحبة غايب" وعندما تركب مواصلة تجد كل شخص صادر من موبايله صوت أغنية مختلفة عن الآخر الموجود معه بنفس المواصلة، والسائق يدير الكاسيت أو المذياع على أغنيه مختلفة، ولا أحد يسمع!!! ولا أحد يقول شيئا وكلٌ يعمل ما يحلو في عينيه، وإذا تطوعت وتكلمت لخفض هذه الأصوات قد تسمع ما لا تريد أن تسمعه واختفت المبادئ واحترام خصوصية الآخرين واحترام المريض ولا يوجد من يمسك بكتاب ليقرأه إلا نادرا والكل يسير في "مولد الدنيا" إلى أين؟؟ لا نعلم!!
أما في مجال الإدارة: نجد أن المدير الذي يعتمد في إدارته على الصوت المرتفع أكثر المديرين الذين يتمتعون بقدر قليل من الخبرة والحكمة والذكاء، ولكونه فاقد لهذه الأمور فسلاحه في الإدارة الصوت المرتفع وطريقة "الإدارة بالإمارة" بينما هناك نوع آخر من المديرين قلما تسمع صوته عالياً، وإذا تحدث بصوته الهادي صمت الجميع، لما له من حضور وهيبة وكلمته مسموعة ليس خوفاً لكن احتراماً –لأنه قدم احتراما لموظفيه– وفي كلامه تجد فهماً وعِلماً وخبرة وحكمة.
وأما عن الجانب الديني: فقد قيل عن السيد المسيح أنه "لا يصيح ولا يُسمع في الشوارع صوته" لكننا نرى العكس فيمن سماهم المسيح نفسه بالمرائيين الذين يصلون في زوايا الشوارع وعندما كان الكتبة والفريسيين يقدمون نزورهم المالية يضربون بالبوق لكي يمدحوا من الجميع، فكلما عَلَىَ صوتي أكثر من صوت رفيقي، كلما عبر ذلك عن تديني الشديد وتقواي –حسب نظرتهم– بينما رآهم السيد المسيح مثل قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة ، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، أيهما أهم المظهر الخارجي أم الجوهر الداخلي؟؟
وقد استخدم القديس بولس الرسول تعبير "نحاساً يطن أو صنجاً يرن" للشخص الذي يعمل أعمالاً عظيمة ولكنها تخلو من المحبة، أي أن أي عمل يخلو من المحبة القلبية للآخرين هو مجرد أصواتاً عالية بلا نفع بل تصنع إزعاجاً واضطراباً للناس.
نأتي إلى الحوار سواء كان حوار بين زوج وزوجة (والجيران تسمع) أم حوار إداري في اجتماع، أو في مجلس إدارة شركة أو في مجلس الشعب أو في أي حوار بين اثنان أو أكثر، نجد نفس القاعدة فكلما زاد فراغ الشخص داخليا كلما عَلَىَ صوته أكثر من صوت الآخر لدرجة أنك عندما تشاهد أو تسمع هذه الحوارات لا تستطيع أن تفهم من يتكلم ومن يستمع فالكل يتكلم ولا أحد يستمع، حتى في الحوارات التلفزيونية على الهواء قد تشعر أنك في مشاجرة بإحدى الشوارع وليس في برنامج حواري.
في جميع الصفوف الدراسية يدرس فيها موضوع الضوضاء وأضراره من الصف الأول الابتدائي إلى الثانوية العامة، ولا أحد يسمع ولا حد يستجيب، وكأنه كلام على ورق للامتحان فيه ثم يلقى في سلة المهملات.
كيف تؤثر الضوضاء والأصوات العالية علينا؟ على المستوى الجسدي قد تشعر بالصداع الشديد ولا تعلم ما هو سببه فقد يكون أحد أسبابه هذه الضوضاء المحيطة بك في كل جانب ، قد تسبب الضوضاء الصمم وضعف الذاكرة ، وهي تؤثر بالتالي على تفكيرنا فيصبح أدائنا أقل وإنتاجنا أقل مما لو كنّا نعيش في جو من الهدوء، وعلى المستوى النفسي قد تصيبك هذه الضوضاء بالإحباط وأحياناً بالاكتئاب لأنك تريد أن تغيّر من هذا الواقع الأليم ولا تقدر فليس أمامك سوى أن تستسلم له كأمر واقع فيصيبك ذلك بالإحباط والحزن وتوتر الأعصاب، وبعد أن كشفنا عن واقعنا وعن كم الضوضاء المزعجة وأثارها على حياتنا الجسدية والنفسية والاجتماعية والإنتاجية يأتي سؤال هام وهو:
كيف نستعيد هدوئنا؟؟
كما هو مكتوب في سفر أشعياء "بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" وتحت شعار "ابدأ بنفسك" راقب نفسك وحاول أن لا تكن شريكاً في هذه الضوضاء إذا كنت تقود سيارتك فلا تستعمل آلة التنبيه إلا في الضرورة، وإذا كنت في إحدى المواصلات فلا تصنع بموبايلك إزعاجاً للمحيطين بك، -مع التمني لوجود طريقة أو قانون تمنع الصوت المرتفع الصادر من كاسيتات السيارات والميكروباصات والأتوبيسات– وفكر وادرس وأقرأ واستمع لموسيقى هادئة ولا تجعل صوتك مرتفعاً لأجل كل أمر صغير أو كبير.
وفي مجال الحوار هناك حكمة قالها سليمان الحكيم تقول: "المجيب عن أمر قبل أن يسمعه فله حماقة وعار" تعلم أن تستمع أكثر مما تتكلم فالله خلق لنا أذنان ولسان واحد لكي نستمع ضعف ما نتكلم، تعلم أن تستمع للطرف الآخر حتى ينهي حديثه وذلك من آداب الحوار أن لا تقاطع الآخر لحين نهايته من الكلام إلا إذا كانت المقاطعة لتوجه للمتكلم سؤال يوضح به أكثر الرسالة التي يتكلم فيها إليك.
تدرب على أن تخفض صوتك مع كل حديث بقدر المستطاع حتى وقت الغضب اغضب ولا تخطئ، املأ ذهنك بالحجج المنطقية والعلم والدليل والبرهان فإذا تحدثت يكون كلامك كتفاحة من ذهب في مصوغ من فضة لأنها كلمة مقوله في محلها. هنا سيصمت الآخرون ليسمعوك أنت بلسانك الفصيح وليس بصوتك الذي يصيح.
إذا فعل ذلك كل منّا سنجد الهدوء يعم بيوتنا وشوارعنا وستعود إلينا قوة التفكير والتخطيط والإبداع وسنلحق بركب التقدم والتحضر ولن نكون نحاساً يطن أو صنجاً يرن.