الأقباط متحدون | راهب الحب السماوي
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٧:٠٢ | السبت ٢٥ فبراير ٢٠١٢ | ١٧ أمشير ١٧٢٨ ش | العدد ٢٦٨١ السنة السابعة
الأرشيف
شريط الأخبار

راهب الحب السماوي

السبت ٢٥ فبراير ٢٠١٢ - ٠٤: ٠٢ م +03:00 EEST
حجم الخط : - +
 

بقلم: ماجد سوس
ما من أحد زار دير القديس العظيم الأنبا "مقار" بوادي النطرون إلا وتقابل مع أحد ملائكة الله الذين يرتدون الزي الرهابني، ولا سيما شيوخ البرية الذين حفظوا لنا الرهبنة في عصرنا الحديث بعد أن كادت أن تختفي في بداية القرن العشرين حتى نهضت على يد مفجِّر النهضة الرهبانية والنسكية ورائدها في العصر الحديث، المتنيح العلامة الأب "متى المسكين" (1919 – 2006 ) أب رهبان الدير.

فما أن تطأ قدمك هذه البرية المقدسة التي ظهر فيها الشاروبيم للقديس "مقاريوس" الكبير حتى تشعر أن الزمن توقف عند القرن الرابع الميلادي، حيث آباء البرية المملوئين من روح الله ونعمته، فلا تجد أحد يتكلم في الماديات أو الجسديات ولا يسمح لك أن تفعل هذا، فالكل يتكلم عن ملكوت السموات ولا سيما رجل وجهه مضيئ يحمل ابتسامة تدخل السلام في أعماقك وتملأ جسدك بطمأنينة ليست كطمأنة هذا العالم، كل هذا قبل أن يفتح فاه، فقط بأحضانه الأبوية وعمق مشاعره الجياشة وترحابه الذي يشعرك وكأنه أبيك الذي ينتظرك متشوقًا لرؤياك بعد غيبة طويلة.

هذا هو الأب "كيرلس المقاري" الذي انتقل من أرض الشقاء لينضم إلى آبائه في الفردوس بعد حياة مباركة قضى منها حوالى (58) سنة راهبًا ناسكًا.

اسمه العلماني قبل الرسامة "صموئيل ناشد عبد السيد"، وُلد يوم 14/3/1927، حصل على بكالوريوس ‏‏الهندسة – قسم البترول– جامعة القاهرة- عام 1949، وعمل مهندسًا بكبرى شركات البترول.

كان من جيل العمالقة الخدام الذين خدموا مع قداسة البابا "شنودة" في كنيسة القديس الأنبا "أنطونيوس" بـ"شبرا"، ثم صار أمينًا للخدمة فيها، حصل على بكالوريوس في العلوم اللاهوتية من الكلية ‏الإكليريكية، ثم ترهبن في دير السريان متتلمذًا على الأب القمص "متى المسكين" في ‏‏‏28/7/1955.

انتقل هو وإخوته الرهبان مع أبيهم الروحي الأب "متى المسكين" عام 1956 إلى دير الأنبا "صموئيل"  بـ"القلمون"، ‏ومنه انتقل معهم إلى مغائر وادي الريان عام 1961، وقضى معهم حياة نسكية شاقة لمدة ما يقرب من (10) ‏سنوات، ‏حتى استدعاهم قداسة البابا "كيرلس السادس" عام 1969 للذهاب إلى دير القديس أنبا "مقار"، حيث أوصى ‏أباهم ‏الروحي بتجديد مباني الدير وإنهاض الحياة الرهبانية فيه، واشترك هو مع إخوته الرهبان في تعمير وتجديد ‏مباني ‏وترميم آثار الدير.‏

كان قداسة البابا "كيرلس السادس" يحب أبونا "كيرلس" فاستدعاه في عام 1959 ليكون ضمن سكرتارية ‏قداسته، وبعد فترة قصيرة طلب من البابا السماح له بالعودة إلى مغارته بـ"وادي الريان".

في 1/1/1970 سيم كاهنًا على يد نيافة الأنبا "ميخائيل" مطران "‏أسيوط" ورئيس دير القديس أنبا  "مقار"، ثم انتُدب ‏للإيغومانسية (قمص) عام 1972 ليمارس خدمته كأمين للدير ‏ووكيل لأوقافه.‏

بعد خلو الكرسي المرقسي بانتقال المتنيح البابا "كيرلس السادس" تم ترشيحه للبطريركية، وقام أعضاء المجمع المقدس باختياره ضمن أفضل أحد عشر مرشحًا قبل تصفيتهم لخمسة مرشحين.

الأب "كيرلس المقاري" كان يحيا حياة رهبانية حقيقية مليئة بالنسك والصلاة ودراسة كلمة الله بجهاد ممزوج بالحب، عاشقًا للمذبح ولألحان الكنيسة والتسبحة اليومية بصوتٍ عذب كالقيثارة حيث كان يقود خورس التسبحة اليومية ‏يومًا بعد يوم بلا انقطاع، مُسلِّمًا الأجيال الجديدة ‏اللاحقة ما تسلَّمه من مُعلم الألحان المتنيح المعلم "ميخائيل ‏البتانوني" من ألحان التسبحة والقداس، كما كان يتعهد المتقدمين ‏للرهبنة بالتعليم والإرشاد وأخذ الاعترافات ومتابعة حياتهم الروحية.

يحب الخطاة ويشجعهم ويهتم بهم حتى توبتهم، يملأ النفوس بالرجاء ويرفع– كسيده- البائس من المزبلة، فما أن يأتي إليه شخص ويقول أنا خاطيء حتى يرفعه ويذكِّره بقوة دم المسيح وعمله الكفاري الذي لا تقوى عليه أية خطية مهما عظمت.

في فترة الصوم الكبير، وبالرغم من إغلاق الدير أمام الزيارة في هذه الفترة من السنة، إلا أن أحد الآباء الرهبان كان مريضًا فنزل إلى المدينة للعلاج، فتقابل مع شخص بعيد جدًا عن الله، فطلب الراهب بإلحاح من هذا الشخص أن يزوره في الدير، فجاء الرجل فأدخلوه وأجلسوه في المضيفة، ثم دق جرس الكنيسة حيث ميعاد القداس الإلهي، بالطبع لم يهتم الرجل ولم ينزل للكنيسة، وبعد قليل حضر أبونا "كيرلس" إلى المضيفة فوجد الرجل فسأله: لماذا لم تذهب إلى القداس للتناول؟ فضحك الرجل ضحكة كبيرة جدًا تدل على يأس، وقال لأبونا "كيرلس": "أنا أتناول؟!!!" فسأله أبونا "كيرلس":  ولماذا لا تتناول؟"، فقال له الرجل إن له أكثر من (25 سنة) لم يتناول ولم يصم وإنه خاطيء جدًا، فقال له أبونا "كيرلس" انزل اتناول بسرعة وأنا اللي بقولك، انزل اتناول وبعدين نتفاهم".. فقال الرجل بما يفيد إنه قام بتناول وجبة الإفطار قبل مجيئه للدير من اللبن والجبن والبيض وأيضًا قام بتدخين بعض السجائر، فصمَّم أبونا "كيرلس"– بطريقة عجيبة- أن ينزل الرجل إلى الكنيسة ليتناول، وأعطى له الحل.

فتعجب الرجل جدًا على إصرار أبونا، واهتز الرجل بالفعل وارتبك أمام تصميم أبونا "كيرلس" على أن يتناول، وبالفعل نزل الرجل إلى كنيسة الدير وتناول من الأسرار المقدسة بعد أن قضى كل هذا العمر بعيدًا عن التناول.

وعند انتهاء موعد الزيارة، قام الأب المسؤول بتنبيه الزوار على انتهاء ميعاد الزيارة فلاحظ وجود شخص جالس بجانب جسد أنبا "مقار" وهو يبكي بشدة، وكان هذا في حدود الساعة 6 بعد الظهر، فقام الأب بإخبار أبونا "كيرلس"  بحالة هذا الرجل وماذا نفعل معه؟ فلما سمع أبونا  "كيرلس"  قال للأب المسؤول اتركه ولا تزعجه.

فبعد قليل قام الرجل وغادر الدير في حدود الساعة السابعة، ثم غادر الأرض كلها منتقلاً إلى السماء في حدود الساعة 3 في فجر نفس اليوم بعد أن تناول من الأسرار المقدسة معلنًا توبته على يد أبونا القديس وأمام أجساد الثلاث مقارات القديسين، وببركة واتساع قلب أبونا  "كيرلس" محب الخطاة الذي تحنن على الخاطيء متمسكًا بقول السيد المسيح لرؤساء الكنائس– تلاميذه– ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطًا وما حللتموه يكون محلولاً.

لم يكن رجل عاديًا أرضيًا بل كان سماويًا ملائكيًا، رأيته كشاهد عيان منذ طفولتي، حيث تعلقت بهذا الدير العظيم ورهبانه وكنت أقضي أيامًا وليال كثيرة لسنوات عديدة، لم أره يومًا عابس الوجه أو مكفهر، لم أره يتكلم عن أشياء أرضية، يهتم بالصغير والشاب والكبير بالفقير والغني دون محاباة.

بسبب عذوبة كلامه؛ طلب منه أبيه الروحي أن يستقبل رجال الدولة والسفراء والشخصيات العامة، فكانوا يتعلقون به تعلقًا شديدًا، بل أعرف شخصًا دخل للإيمان بسبب حب هذا الرجل وطريقة استقباله للزائرين.

كان والدي على صلة قوية بالأب "متى المسكين" وبرهبان الدير منذ بداية نشأة الدير، وكان مقر "مجلة مرقس"– التي تصدر عن الدير- في مكتب أبي، فكانت فرصة رائعة لمباركة أبونا المتنيح لعائلتنا ومكتبنا، فلمسنا فيه روحانية عميقة، فعندما يصلي تشعر وكأنه "موسى" كليم الله الذي كان يكلم الرب كما يكلم الرجل صاحبه.

عندما علم بانتقال والدتي– في حادث سيارة– ترك ديره على الفور ونزل ليعزينا، وقبل أن يدخل من باب المنزل نظر إلى والدي وقال له: قل أشكرك يارب يسوع، ولم يسلم علينا حتى طلب من كل واحد منا أن يردد هذا الشكر لله، ثم بدأ في تشجيعنا وأحضر معه رسالة تعزية كان قد كتبها المتنيح الأب "متى المسكين" ليعزي رجل في وفاة ابنته، فإذا بأبونا "كيرلس" يطبع هذه الرسالة المعزية ويكتب– بالطابعة – اسم والدتي بدلاً من اسم بنت الرجل (المنتقلة) في الرسالة قائلاً هذه رسالة أبونا متى- والذي كان قد تنيح– لكم، فكانت ليلة تعزية رائعة.

تنيح الأب القمص "كيرلس المقاري" ليلة الاثنين 13 فبراير 2012 م 5 أمشير ‏‏‏1728 ش (نفس يوم تذكار نقل رفات التسعة والأربعين شهيدًا شيوخ شيهيت)، بعد مرض قصير أدى به إلى ‏‏المستشفى، وذلك بعد أدائه صلوات ليلة عيد الميلاد المجيد بأيام قليلة.

قام بالصلاة على الجسد نيافة الحبر الجليل الأنبا "صرابامون" أسقف ورئيس دير الأنبا بيشوي، ونيافة الحبر الجليل الأنبا "إشعياء" أسقف طهطا وجهينة، ونيافة الجبر الجليل الأنبا "بسادة" أسقف أخميم وساقلته، ونيافة الحبر الجليل الأنبا "متاؤس" أسقف ورئيس دير السريان، ونيافة الأنبا "إيسيذوروس" أسقف رئيس دير البراموس، ونيافة الحبر الجليل الأنبا "ثيئودوسيوس" أسقف عام الجيزة.

أبي القديس، كم من خاطيء رددت وقدَّمت تائبين للمسيح بمحبتك الفياضة متأثرأ بكلمات أبيك الروحي الذهبية عندما في مذكراته يقول: "ما وجدت في حياتي قوة ردتني عن جهالتي أعظم من المحبة، المحبة عندي لها جرأة أشد سطوة على ضميري من نار جهنم".. هكذا أنت يا أبي، فطاقة الحب التي كانت تملأك وتفيض بها على الآخرين هي التي جعلتك تعبر إلى حيث المسيح جالس ويلتف حوله أحباؤك "مقارة" العظيم و"متى المسكين" وإخوتك الرهبان، وأنت مكلَّل معهم..

أبي، أطلب منك أن تصلي وتتشفع من أجلنا ومن أجل الدير والكنيسة والوطن. أطلب منك أن تطلب من أجل الشعب المسيحي في كل مكان لأن تحرُّرك من سجن الجسد سيجعلك تسرع لنجدتنا عندما ندعوك. لذا فهنيئا لك الملكوت يا أبي الذي كنت تحكي لنا عنه باستمرار. هنيئًا المجد والكرامة التي كنت تهرب منهما فلا تحتمل مديح الناس. كثيرون كانوا يلقبونك بمنارة البرية، لكنني أراك راهب الحب السماوي.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
تقييم الموضوع :