د. علاء حمودة
الجاسوسة الصهيونية التي جعلت قائد الجيش الرابع العثماني "جمال باشا" أضحوكة، وحولته إلى ألعوبة في يدها، ونقلت معظم الأسرار العسكرية العثمانية إلى الإنجليز إبان الحرب العالمية الأولى.
"سارة آرونسون Sarah Aaronsohn".. يهودية الديانة من مواليد حيفا.. بيلتقي بها "جمال باشا" قائد الجيش الرابع العثماني، بعد اندلاع الحرب بفترة قصيرة.. وبيعجب "جمال باشا" بـ"سارة".. وبتبادله الإعجاب، ومابينقضيش اليوم إلا وهي في أحضانه في استراحته الخاصة.. في ليلة حميمة دافئة.. بينما رجالته بيموتوا في البحر المتوسط.. والجيش العثماني بيتعجن على الجبهة الروسية.. وسكان الكوكب كله تقريبًا بيضربوا في بعض.
عشق "جمال" لـ"سارة" كان شديد.. ووصفها أنها "امرأة حسناء، حنونة، فاتنة.. دافئة".
وعندما يجن الليل، ومع كؤوس الخمر ودفء أحضان "سارة"، كان بيتحول "جمال باشا" إلى طفل صغير، بتتدفق من بين شفتيه المعلومات بلا حساب.. وبتسمعها "سارة" وهي بتعبث بشاربه، وتحفظها جيدًا، وبعدين ترسلها بالحمام الزاجل إلى قائد الأسطول الإنجليزي على متن سفينته الرابضة في "قناة السويس"، بعدما سلم السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني" مصر للانجليز.. وخان قوات الجيش المصرية، وباع "أحمد عرابي" للقوات البريطانية.
وراحت الهزائم تتوالى على القوات العثمانية، اللي مكانتش من الأصل مستعدة لدخول الحرب دي.. وحكى "جمال" لعشيقته "سارة" عن اتفاق الدولة العثمانية مع الألمان على خرق اتفاقيتي لاهاي 1899 و1907، وأنهم بيستعملوا "غاز الكلور".. وإن ألمانيا بعتت عدة شحنات من الغاز دا للدولة العثمانية بالفعل.. وبلغها بموعد وصول الشحنات الجديدة وكيفية وصولها على سفن مموهة ترفع علم إيطاليا.
وللمرة الأولى.. وقعت شحنات الغاز في يد الحلفاء.
وبينطلق لسان "جمال" عن خطة فائقة السرية، لا يعلمها سوى قادة الجيش العثماني، للهجوم على الجبهة الروسية.. وفي منطقة جبال الكاربات، بيهجم العثمانيين بالفعل.. وبينتصر الروس على العثمانيين انتصار ساحق، بلّغ معه قائد الجيش الثاني العثماني.. أن الروس بدوا وكأنهم عارفين تحركات العثمانيين مسبقًا وسابقينهم بخطوة.
وراحت شحنات السلاح الألماني والنمساوي القادمة إلى الدولة العثمانية تتساقط في يد الحلفاء.. وراحت أكمنة العثمانيين للحلفاء تنكشف، وفشلت أية محاولات عثمانية لهجوم مباغت.. دون أن تعرف الدولة العثمانية مصدر تسريب المعلومات المخيف.. اللي بيودي برجالها وبيسبب لها الهزيمة تلو الأخرى في كل الجبهات.
وفي آخر سبتمبر، من العام 1917، بيطلق أحد الجنود العثمانيين الجائعين في غزة، النار على سرب من الطيور، وبيسقط حمامة.. بيسرع في لهفة لالتقاطها وتنظيفها وشيها.. لكن بيفاجأ أن في ساقيها مربوطة رسالة صغيرة، بيهرع بيها إلى رئيس وحدة الاستخبارات العثمانية.. اللي بيلاقي نفسه أمام رسالة شفرية عجيبة مش مفهومة.. فبينهمك عاكفًا على فك شفرتها مع رجاله.
وبينجح رئيس وحدة الاستخبارات العثمانية في فك الشفرة، ويكتشف مذهولًا ان الرسالة بتحوي معلومات دقيقة للغاية، عن تحركات القوات العثمانية قرب الساحل في سوريا استعدادًا لقصف الاسطول الإنجليزي بالمدفعية.. ومع دقة المعلومات اللي مش بتتوافر إلا للقادة.. حامت الشبهات حول "سارة"، عشيقة قائد الجيش الرابع العثماني "جمال باشا".. وراقبها العثمانيين.. وألقوا القبض عليها في 5 أكتوبر من العام نفسه، وهي متوجهة برسالة جديدة، إلى محل طيور يمتلكه رجل يهودي في حيفا.. قبضوا عليه أيضًا.. وتحت التعذيب، توالت الاعترافات منهم هم الاتنين.
فـ"سارة" الحقيقة لم تكن سوي جاسوسة إنجليزية، تابعة لشبكة تجسس يهودية إنجليزية اسمها " نيلي Nili" حروفها اختصار لجملة "خلود إسرائيل ليس بكذبة".. بتهدف لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.. ومساعدة إنجلترا بكل السبل لتحقيق الهدف دا.
ورغم اكتشافهم أنها جاسوسة، إلا أن "جمال" بيأمر بالكف عن تعذيبها، وتحقيق رغباتها ومعاملتها بلطف حتى ترحيلها للمحاكمة في أسطنبول.. فبتطلب أنها تتوجه لمنزلها وتغير ملابسها اللي امتلأت بالدماء من الضرب والتعذيب.. فبيوافق ويبعتها مع مجموعة جنود...
وفي منزلها بتطلب دخول الحمام.. وبيوافق الجنود لما بيلاقوا شباك الحمام مدعم بقضبان حديدية.. وبتدخل "سارة" الحمام.. وبتخرج مسدس صغير، أخفته تحت بلاطة من بلاطات الأرضية.. وبتدسه في فمها وتطلق النار.
والعجيب أن "سارة" مماتتش.. بس تحطم فكها وتضرر نخاعها الشوكي ومرت الرصاصة من عنقها دون أن تقتلها.. وبدأ الأطباء يحاولوا يعالجوها.. وكانت بتتألم آلام رهيبة وتطلب من طبيبها أنه يخلصها من حياتها.. لكنه ظل يسكن آلامها بالمورفين.. محاولًا الإبقاء على حياتها.. لحد ما ماتت بعدها بأربعة أيام، في 10 أكتوبر سنة 1917.. بعدما اتسببت في هزائم لا حصر لها للدولة العثمانية وكبدتها خسائر فادحة.. كانت سبب قوي في أنها تخسر الحرب كلها في النهاية.
رفض بعض اليهود المتدينين الصلاة على "سارة" وقتها باعتبارها "منتحرة".. والمنتحر لا يجوز الصلاة عليه في عقيدتهم ويخلد في العذاب أبدًا.. لكن معظمهم اعتبر "سارة" بطلة قومية.. ولا زالت بينظر إليها كذلك في إسرائيل.. حتى لحظتنا هذه.
#الخلافة_العثمانية
نقلا عن الفيسبوك