أمينة خيري
بغض النظر عما أسفرت عنه قمة برلين، فإن متابعة مجرياتها الإعلامية تكاد تنافس متابعة مجرياتها هي شخصيًا. ولو كان الأمر بيدي، لجعلت الجيش الجرار الدارس في عشرات كليات الإعلام في مصر يتابع ما كُتِب وبُث عنها بوسائل إعلام الكوكب، علّنا نخرج برؤية إعلامية مستقبلية.
مستقبل المنطقة برمّتها، الجاري صناعته وصياغته والتكتيك والتكنيك له، تارة برياح ربيعية، وتارة ثانية بطوائف قتالية، وثالثة بتحركات تركية في عقر دار جارتنا الغربية وغيرها - يستحق منا إعلامًا مختلفًا، إن لم يكن اليوم فربما غدًا.
ولأن انتظار الغد لم يعد رفاهية نملكها، فإن نظرة سريعة على ما جرى إعلاميًا خلال الساعات القليلة الماضية قد يفيد، وإن لم يفد، فربما يكون مسليًا.
بالطبع- وكما هو متوقع- تدق "الجزيرة" وأخواتها، سواء تلك التي تبث شرقًا أو غربًا ومعها الجانب الأكبر من الإعلام التركي على أوتار الدور التركي العظيم، وتصريحات فايز السراج باعتبارها تصريحات رجل الدولة الليبي، وتحركاته وكأنها تحركات الدولة، وتلسينات عواجيز الفرح حيث حفتر "الذي يقود ثورة ضد الشعب الليبي" بحسب توصيف الجزيرة وأخواتها له، يقود "قوات حفتر" وليس الجيش الوطني الليبي، وأن "قوات حفتر" تقصف حقول النفط في الجنوب... إلخ.
عدم حضور كل من الرجلين (حفتر والسراج) فعاليات المؤتمر نفسه، رغم وجودهما في برلين - لم يشغل بال كثيرين، وهو، ربما، يعكس قناعة دفينة بأن مجريات الأمور في ليبيا لم تعد بالبساطة التي تضع دفتها بين أيادي جهتين متناحرتين؛ فالمجريات في الجارة الغربية صارت في أيادٍ عدة، بينها مثلاً ما لا يُحكى عنه في الإعلام: ما لا يقل عن 1500 فصيل مسلح كانت في الأصل تتبع نحو 30 ميليشيا، بالإضافة إلى عدد يقدر بنحو ألفين من المرتزقة السوريين المشحونين تركيًا. الرئيس التركي نفسه قال إن تركيا تستقبل أربعة ملايين لاجئ، معظمهم سوريون، وإنها قادرة على فتح الأبواب أمامهم ليتوجهوا نحو أوروبا.
هؤلاء المرتزقة هم من تم تدريبهم من قبل تركيا لتنفيذ المخطط التركي في سوريا، وحالياً هم يبحثون عن فرصة عمل جديدة.
فرصة مؤتمر برلين لم تكن فرصة بالمعنى المعروف، ربما ليقين الجميع، مشاركين وممتنعين وممتعضين ومبتهجين ومتابعين، بأن الحسم لم يعد ممكنًا عبر مؤتمر.
كما أن الجميع على علم بأن تركيا لن يتم ردع تدخلها الفج في ليبيا إلا لو أراد "الكبار" ذلك، أو جد في الأمور جديد لم يكن مدرجاً في الحسبان.
التغطيات الفرنسية لوحظ فيها محاولة الإمساك بالعصا الليبية من المنتصف إلى أن تتحدد الصورة بشكل أوضح. أما التغطيات البريطانية، فتميل عصاها إلى مواقف السراج ومن يمثله وليس حفتر، لكن عموماً ينبغي الإشارة إلى أن تغطيات هذه الدول ليست كتلة واحدة أو توجها أحاديًا.
وإلى أن يجد جديد، فإن التغطية الألمانية نفسها للمؤتمر تستحق منا الملاحظة، لا من حيث المحتوى، ولكن من حيث الإطار. فالصفحات الرئيسية والأخبار الأساسية لم تدق على الوتر الوطني؛ حيث "ألمانيا بلدنا تقوم بدور أسطوري"، و"تجمع الأضداد على أرضنا"، و"تعد بالسلام للكوكب ومن عليه"، لكنها تغطية مهنية وموضوعية رغم أنها معبأة بالمصالح الألمانية ولكن دون أهازيج وطنية وملاحم غنائية.
لكن هذا لا يمنع أن كلًا في الإعلام يغني على ليلاه، وليلى "ليبيا" لها بدل الحبيب ألف. ومع كل المحبة والمودة لإخوتنا الليبيين، لكن مؤتمر برلين وغيره من الفعاليات الدولية والأممية تضع ليبيا في عيونها، ونفطَ ليبيا وإمكاناتِها الجيوسياسية فيما يختص بغاز المتوسط في قلوبها وعقولها وجيوبها.
كلمة أخيرة: تحجيم الرؤى الإعلامية لتختزل فعاليات دولية ومخططات عالمية في انتصارات داخلية فقط (رغم أن الانتصار واقع لا يمكن إنكاره) والدق على أوتارها بإفراط دون تقديم الشرح الكامل للصورة يساهم في مزيد من التجهيل والعزل وقصر النظر، وهي علل تبدو بسيطة، لكنّ تفاقمها قد يؤدي إلى أمراض عضال تصيب المجتمعات في مقتل، وتدفع بها نحو هاويات سياسية واجتماعية وثقافية.
نقلا عن مصراوى