بقلم - روماني صبري
يحط التعصب رحاله داخلنا ويستفحل، عندما نرفض التخلي عن أفكارنا القديمة التي لم تجدي نفعا لأرواحنا، وليس العن منه مرض، لاسيما عندما يجعل الآخرين يغادرونا غير مبالين بحثا عن عالم أرحب حتى لو دفعوا ثمن ذلك الانفكاك عن الله".. نجح المخرج البرازيلي "فرناندو ميريليس"، في فيلمه الأحدث the two popes (الباباوان)، سيناريو "أنتوني مكارتن"، والمأخوذ من مسرحية " البابا 2017 " لمكارتن، في تصوير الفلسفة الروحية لقيادات الفاتيكان الذين طالما تعصبوا للتقاليد الكنسية أشد التعصب متمثلين في البابا "بنديكتس" السادس عشر الذي فضل ترك منصبه في النهاية من اجل التغيير للرجل الذي رأى الخطاة والمثليين الجنسيين يحبونه ويكنون له كل الاحترام، وهو الكاردينال خورخي بيرجوجليو" البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان حاليا، المطالب الكنيسة الكاثوليكية بالتغيير حتى تلف ذراعيها وتحتضن هؤلاء الذين انفصلوا عنها جراء تزمت وتعصب رجالها للتقاليد الموروثة ما جعله يطلب توقيع البابا بنديكتس على استقالته في احد الأيام، وهو ما يرصده الفيلم دون أن يتعصب لأحد .. فقط بفيض من الحب انساب من الأرواح فحدث التغيير.
جسد دور البابا بنديكتس الممثل الكبير أنتونى هوبكنز ، فيما لعب دور خورخي الفنان جوناثان برايس، ليقدما أداء استثنائي غاية الروعة سرعان ما ينسل سحره ويطفح بالروح، لافتقاده الكيفية المخيفة التي ينتهجها الكثير من فنانين اليوم القائمة على النواح المفرط والصراخ لجذب تعاطف الجماهير والقائمون على مهرجانات السينما.. يفتتح ميريليس فيلمه بمشقة يتكبدها خورخي رئيس اساقفة مدينة "بوينس أيرس" الأرجنتينية بأمريكا اللاتينية، للقاء البابا بنديكتس ، ليكشف له الأخير سرا دونا عن غيره، ولماذا خورخي بالتحديد؟!، أليس هو الرجل الذي خشي منه على الكنيسة بعد رحيل "البابا يوحنا بولس الثاني" حتى لا تتغير الكنيسة وتفقد قوتها كونه يشاهد مباريات كرة القدم مع الشباب ويرقص التانجو الأرجنتيني ويرحب بالمثليين الجنسيين في الكنيسة، لإيمانه أن الكنيسة بيت للخطاة وذلك تنفيذا لتعاليم المسيح، إلى جانب مطالبته الفاتيكان بتطوير أفكاره حتى تتماشى مع العالم العصري، وكذا هجرة حياة البذخ التي يعيشها رجاله، هو الذي انتعل حذاء بسيطا ورفض ارتداء الصلبان الذهب من اجل فقراء العالم وضحايا الحروب ؟!.
عن طريق الفلاش باك ( العودة إلى الماضي)، يعود بنا " ميريليس" إلى خضم الكثير من الأحداث التي شهدها الفاتيكان، وكلا الرجلين .. في المشاهد الأولى للفيلم نرى الكاردينال " خورخي يجوب شوارع مدينته "بوريس أيرس" ليلتقي بسكانها اقتداء بمعلمه المسيح، فنراه يشاركهم طعامهم وحياتهم العصرية، مختصهم في عظته الشعبية بقوله :" حتى فريق " سان لورينزو" يستطيع أن يصلي من اجلنا نحن الخطاة - في إشارة منه أن الإنسان لا يجب عليه أن يعيش حياة القحط والفقر حتى يستحيل قديسا فيقبل الله صلاته بخصوص الآخرين .. وعقب انتهاء عظته تخبره سيدة أن البابا يوحنا بولس الثاني عرفه الموت، فيرسم الصليب طالبا لروحه السلام.
يتبع ذلك مشهد تشييع جثمان البابا يوحنا بولس الأب الروحي لحقوق الإنسان والمناضل لتحقيق نصرة الفقراء، والذي طالما كثف من جهوده لوحدة الأديان، لكن على الرغم من ذلك رفض التحرر ودفع بقوانين الكنيسة القاسية إلى الواجهة .. يجتمع الكرادلة الكاثوليك من كل بقاع العالم لانتخاب بابا جديد حتى يكون خليفة للقديس بطرس الرسول، وفي إطار كواليس ذلك يلتقي " الكاردينال " جوزيف راتزينجر" الألماني المحافظ البابا بنديكتس، مع خورخي فيسمعه يدندن إحدى الإلحان، فيسأله اسم الترتيلة، فيجيبه خورخي بقوله : ليست ترنيمة أنها أغنية .. دانسنيج كوين .. فرقة آبا ، فيذهل راتزيجر ويتركه وهو يتمتم ساخرا :" اها .. آبا" .. في النهاية ينتخب راتزينجر بابا للفاتيكان.
يلتقي خورخي أخيرا البابا ويطلب منه التوقيع على استقالته، كاشفا له الحزن الذي نزل به جراء تعنت قيادات الفاتيكان ورفضهم التطوير والإصلاح ، مشددا له على أن تزمتهم لم يفد أكثر من مليار كاثوليكي في كافة أرجاء العالم، فيرد عليه البابا نحن نحمي تقاليد الكنيسة ونخدم الله أولا، ، فيقول له خورخي :الرب خلق عالم يتغير .. هذا ما أثبته التاريخ والبابا بنديكتس خليفة القديس بطرس الرسول الذي كان متزوجا ومارس الجنس .. فيجيبه مازحا :" شكرا على المعلومة لم أكن اعرف ذلك ! ." فيستطرد موضحا :" لم تفرض الكنيسة العزوبية على الكهنة حتى القرن الـ١٢.. كذلك الملائكة لم تذكرهم الكنيسة قبل القرن الخامس .. وألان تضج الأخبار عنهم في كل بقاع العالم !، حتى باتوا مثل الحمام الزاجل .. الطبيعية التي خلقها الرب لا تعرف الركود .. أيضا الكون والرب ذاته ." :"
الرب لا يتغير خورخي !
بالطبع يتغير حتى يقترب من الإنسان، ما يصب في مصلحة الخطاة والأشرار .. ما يؤكد انه آن الأوان حتى تتغير الكنيسة وتكفر بكل الأفكار التي تعصبت لها، والتي جعلت الملايين يختارون الإلحاد والانفكاك عن الله
أن كان الله يتغير مع الوقت فكيف يمكن أن نجده خورخي !؟
نجده خلال رحلتنا في الحياة
صوت الأنا لديك هو من يتحدث .. تعتقد انك على علم بكل الأمور أفضل من الآخرين ؟!
أنا أرجنتيني .. أتعلم كيف ينهي الأرجنتيني حياته ؟ .. حسنا دعني أخبرك .. حين يقرر قتل نفسه يتسلق قمة الأنا لديه ويقفز وبهذا ينهي كل شيء !
نحن ندافع عن 2000 عام من التقليد.. لكن الكاردينال خورخي رئيس الأساقفة يعرف أفضل من الجميع !
الكنيسة خلال السنوات الأخيرة ارتدت ثوب الجلاد وراحت تشرع في تأديب كل من يختلف معها.. لاسيما الذين عارضوا تزمتها بخصوص قضية الطلاق، تحديد النسل، المثلية الجنسية والذين حرفوا كلامي حولها حتى اظهر للشعب إنني أؤيدها .. وغضت الكنيسة بصرها عن تدمير كوكب الأرض جراء الفرقة وعدم المساواة اللذان انتشرا كالسرطان .. نحن رجال الكنيسة نزل بنا الخوف بشأن هل من الصواب إقامة قداسات باللغة اللاتينية أم لا .. هل يجب علينا أن نسمح للفتيات بالخدمة بالمذبح أم لا وذلك لان النص الديني يحرم ذلك ما جعل الفتيات يشعرن بالتفرقة وان الذكر أفضل ومحبب عنهن لدى الرب .. وطوال الوقت كمن الخطر داخل الكنيسة، فمثلا نحن كنا نعلم أن هناك كهنة وأساقفة اعتدوا جنسيا على عدد من الأطفال، وحتى نعالج الأمر نقلناهم إلى كنائس أخرى بعيدة، لنتستر عليهم خوفا على سمعة الكنيسة، لنجعلهم بهذا القرار الكنسي يمارسون جرائمهم على أطفال آخرين .. قداسة البابا كان الحل في عزلهم ومحاكمتهم كنسيا .. فكيف لبعض كلمات الكهنة السحرية شفاء الجراح ؟!
كلمات سحرية .. أهكذا تتحدث عن سر الاعتراف !
الاعتراف يطهر الروح .. لكنه لا يساعد الضحايا .. الخطية جرح وليست وصمة عار .. لذلك ينبغي أن يشفى هذا الجرح
تقول "نحن" .. خورخي انت تقصدني كوني البابا .. إذا فأنا الملام .. اسمع أنا احتاجك استقالتك احتجاج رسمي ضد الكنيسة.
ومع توالي اللقاءات، يكشف له البابا انه عانى من صمت الله الطويل، حتى حط داخله الشك، حيث راح يفكر في مستقبل الرعية وتساءل لماذا لم تشفى القلوب رغم تمسك الكنيسة بالتقاليد ؟!، حتى قطع الله صمته وتحدث من خلاله هو المحبوب من الخطاة والإصلاحيين، فبعث هذا برسالة وهي أن الشك في بعض الأمور يقوم الروح ويهذبها فترى الصواب ... يلهم كل منهم الأخر بأفكار ايجابية لازال البابا بنديكتس هو الراعي... ينصحه خورخي بعدم تخليه عن منصبه لان في ذلك ضربا من المستحيل، لان قراره ذلك سيؤثر سلبا على سمعة الكنيسة .. خلص البابا أن الكنيسة في حاجة إلى تغيير ويتحقق ذلك من خلال خورخي ، يرفض خورخي ويخبره انه لا يصلح لاعتلاء كرسي القديس بطرس لان الملفات لا تحتوي على كل شيء فيروي له واقعة أنزلت بروحه الشعور بالذنب عقب انقلاب عسكري ديكتاتوري ضرب بلاده في حقبة السبعينيات، فيذهب المخرج بالفلاش باك ثانية ويستحضر الماضي ليروي تفاصيل الواقعة وتبعاتها على روح خورخي، كذلك البابا يعترف له بخطيئته الكبرى فيطلب كل منهما حل الآخر من خطاياه.
يسلط الفيلم الضوء أيضا على الجوانب الايجابية في شخصية البابا بنديكتس مثل عشقه للموسيقى، الإنصات للأخر، شعوره بالذنب تجاه الرعية كراهيته للنرجسية، هدوءه، إنصاته للشك الذي على اثر ذلك حدث التغيير داخل الكنيسة الكاثوليكية، فرأيناه يرقص التانجو مع خورخي دون أن ينفك عنه الخجل داخل الفاتيكان.
اختيار ميريليس زوايا التصوير المنخفضة والمرتفعة لتصوير نقاط الضعف والقوة البشرية داخل الباباوان كانت موفقة للغاية، كذلك لقطات مستوى النظر التي عكست مدى إنصات الرجلين لبعضهما البعض خلال الحوارات، وكذا اللقطات التفصيلية داخل الفاتيكان، واستعانته بالأفلام الأرشيفية وتوظيفها في بعض المشاهد زاد من واقعية الفيلم وكشف الكثير من التفاصيل، إلى جانب توظيف المونتاج بقوة لاسيما في المشاهد الحوارية للوصل مونتاجيا بين الفعل ورد الفعل، وفيما يخص إخراج الصورة كانت عظيمة ولامست جوهر الفيلم بشكل كبير.