في بداية شهر سبتمبر الماضي فاجأنا الدكتور مصطفي مدبولي, رئيس الوزراء بإصدار توجيه بالبدء في برنامج لإحلال سيارات آمنة ومرخصة بدلا من التوك توك مثل سيارات الميني فان التي تعمل بالغاز الطبيعي, وأشار المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء حينئذ إلي أنه سيتم عقد اجتماعات مع مصنعي التوك توك لتحويل خطوط إنتاجهم إلي الميني فان.
كتبت وقتها تحت عنوان التوك توك ليس الشيطان.. والميني فان ليس المخلص.. لكن التقاعس الحكومي هو المسئول, مستعرضا حقيقة الأوضاع المرتبطة بهذه القضية والتي أوجزها فيما يلي:
* التوك توك ظهر كوسيلة انتقال فرضتها طبيعة العشوائيات السكنية التي تركت تنمو بشكل فطري سرطاني دون تخطيط وتفتقر إلي شبكات طرق بالمعايير العمرانية لتحل محلها شبكات ضيقة ملتوية من الأزقة التي لا تسمح للسيارات أو وسائل المواصلات بارتيادها, ويقنع ساكنوها بالدراجات والدراجات البخارية وعربات الحنطور والكارو للخروج منها أو للدخول إلي عمقها.. فجاء التوك توك ليلبي حاجة ملحة خاصة لكبار السن وغيرهم.
* لم يأت التوك توك ليخرق القانون أو ليتحدي قواعد المرور, فقد بدأ ظهوره في تجمعات -أو مواقف- علي أعتاب تلك العشوائيات وعند التقائها بالطرق الرئيسية التي تمر عليها حيث ينتهي دور المواصلات التقليدية, ويستقله الناس دخولا إلي العمق, أو بالعكس خروجا من العمق إلي حيث توجد مسارات المواصلات التقليدية.
* كما سكتت الحكومات المتعاقبة علي ظهور ونمو العشوائيات حتي فرضت نفسها كأمر واقع, هكذا سكتت تلك الحكومات علي ظهور التوك توك, ولم تبادر بإخضاعه لمعايير الفحص الفني مثله مثل سائر المركبات التي تعمل في نشاط نقل المواطنين, فلا فرضت ترخيصه وتثبيت لوحات معدنية عليه, ولا ألزمت سائقيه بالحصول علي تراخيص قيادة, ولا حتي قامت بتحديد مناطق عمله داخل العشوائيات علي ألا يتجاوزها إلي شبكات الطرق خارجها.
* النتيجة الحتمية للتقاعس الحكومي وغياب الرقابة الصارمة كانت أن قيادة التوك توك باتت مستباحة لشباب غير مدرب ولا يحمل ترخيصا ثم انزلقت إلي صبية غير متعلمين.. وكما لم تتدخل السلطات لإيقاف ذلك استباح هؤلاء التسلل خارج العشوائيات ومد مجال حركتهم بالتوك توك إلي شبكات الطرق, وتم ذلك علي استحياء أولا ثم استفحل نتيجة غياب الرقابة بعد ذلك حتي فرض التوك توك نفسه بكل جرأة وتحد كظاهرة جديدة للمواصلات في الشارع المصري.. ومثلما استباح ارتياد الطرق الفرعية أولا, استباح ارتياد الطرق الرئيسية ثم الكباري والأنفاق!!.. ولم لا طالما لم يوقفه أحد أو تردعه سلطة؟!!
* مشاكلنا ليست مع التوك توك تحديدا, فهو وسيلة انتقال آمنة ومرخصة وهادئة في بلاد كثيرة, وادعاء الخلاص منه لإصلاح المعوج هو تعتيم علي التقاعس الحكومي الذي إن استمر كما هو الحال فحتما سوف تنتقل عشوائيته وانفلاته إلي الميني فان الذي تبشرنا به الحكومة وسيكون الفرق الوحيد بينهما أن القادم الجديد يعمل بالغاز الطبيعي!!
* الكارثة أن الحكومة وهي تقدم لنا الميني فان كمخلص من خطايا التوك توك لا تدري -أو تدري وتغض البصر- عن أن الميني فان المرشح كوسيلة انتقال عامة مرخصة موجود بالفعل يتحرك في شوارعنا منذ نحو ثلاث سنوات ويتم ترخيصه كسيارة خاصة ملاكي بينما هو يعمل في نقل الركاب عيانا جهارا ويمرح منفلتا بين السيارات بفضل حجمه الصغير وبفضل غياب الرقابة والحساب عن الشارع.
والآن.. نحن نحمل هذه القضية معنا من العام الماضي إلي العام الجديد ولا تبدو في الأفق أية سياسات أو إجراءات لإصلاح المعوج الذي بشرتنا به الحكومة ورئيس الوزراء.. مازال التوك توك كما هو, ومازال الميني فان الملاكي كما هو, ومازال انفلاتهما معا مستمرا وتهديدهما لسلامة وأمان المواطنين علي الطرق أمرا واقعا بل إن الأمر المضحك المبكي أن تجميع وإنتاج وتجارة قطع غيار التوك توك كلها أنشطة مستمرة لم تتوقف ولم نسمع عن سياسات واضحة أو خطط تحفز أو تدعم تلك الأنشطة للتحول عن التوك توك إلي الميني فان.
الحقيقة أن الأوضاع انتقلت إلي العام الجديد كما هي عليه.. والحقيقة أيضا أن الإصلاح الذي نريد سماعه هو بدء تفعيل إجراءات صارمة لترخيص التوك توك وسائقيه بالإضافة إلي سحب تراخيص الملاكي من الميني فان الذي يعمل في نقل الركاب وإخضاعه لتراخيص الأجرة كسيارات وسائقين, مع تحديد شبكات الطرق المسموح بها لكل منهما -التوك توك والميني فان- بالعمل داخلها والخطوط الحمراء التي يحظر عليهما أن يتجاوزاها.. ولا يفوتني أن أقول: إن علي الحكومة إذا فعلت كل ذلك أن تطبق آليات الرقابة الصارمة التي تضمن عدم العودة إلي الانفلات والفوضي, لأن الشيطان ليس في التوك توك ولا في الميني فان إنما في غياب القانون وانعدام الرقابة والمساءلة!!