مفيد فوزي
لى ملاحظة «مهنية» أستأذن أن أسردها لأنها حبيسة صدرى!
حين نتعرض لمناقشة قضية مجتمعية، فإننا نمنحها مساحة ما فى الصحيفة، ثم نذهب إلى موضوع آخر وكأننا أدينا الواجب! إن القارئ المصرى يحتاج إلى متابعة فى نفس الموضوع المطروح، خصوصاً إذا كانت القضية تشكل خطورة فى مستقبل الأيام، وهل هناك ما هو أسوأ من الكثافة السكانية التى تتعدى المعدلات السكانية فى تعداد الدول وتصبح عائقاً للتنمية؟ إننى أحلم بأن يصبح القارئ طرفاً فى المعادلة يهتم بالأمر ويستوعب المضمون الذى تشى به السطور، فهكذا يكبر الوعى بالقضية.
■ ■ ■
من المهم أن أستعرض كل وجهات النظر فى المشكلة السكانية حتى تتضح ملامح الصورة وندرك بالعقل حجمها فى مصر.
مثلاً: هناك وجهة نظر تقول إن وجود زيادة سكانية فى أى مجتمع ضرورة لإحلال الوفيات التى تحدث سنوياً وتجديد شباب هذا المجتمع وبقائه. والسؤال البديهى الذى يطرح نفسه: ما هى الزيادة العاقلة الآمنة؟ والإجابة النموذجية هى أن تتساوى أعداد المواليد والوفيات، وبالتالى يظل عدد السكان ثابتاً، ولكن إذا فاق عدد المواليد عدد الوفيات، فهناك تأثير لهذه الزيادة على تقدم الأوطان. رأى يرى أن الزيادة السكانية من الممكن أن تؤدى إلى تقدم الأمم بشروط! منها أن يترتب على الزيادة فى السكان مقابلة فى الإنتاج الحقيقى للدولة، بمعنى أن تؤدى الزيادة السكانية إلى زيادة فى أعداد المنتجين والمبدعين وليس فى أعداد المتعطلين، ومنها أن يترتب على الزيادة خفض فى معدلات الفقر وزيادة متوسط الدخل، بحيث يصاحب الزيادة فى حجم السوق زيادة مماثلة فى القوة الشرائية وتصبح دافعاً لتنشيط التصنيع المحلى ويصبح المجتمع قادراً على خلق فرص عمل منتجة، ومنها ألا تؤدى الزيادة السكانية إلى تراجع فى نوعية الحياة أو تراجع فى الخدمات العامة أو تدنى جودة هذه الخدمات، ومنها ألا تؤدى الزيادة السكانية إلى الإضرار بالبيئة واستنزاف الموارد الطبيعية لاسيما الأرض الزراعية ومصادر الطاقة.
ومن هذه الشروط ألا تؤدى الزيادة فى السكان إلى خفض الاكتفاء الذاتى من السلع الغذائية ومصادر الطاقة، وبالتالى إلى تزايد الاعتماد على الخارج، وهذا بطبيعة الحال ما يؤثر على استقلال القرار الوطنى.
وفى لغة الأرقام- التى لا تكذب- تشير الإحصاءات إلى أن عدد المواليد عام ٢٠١٢ كان ٢ مليون و٦٠٠ ألف نسمة، وهى زيادة يرى أساتذة الإحصاء أنها زيادة «لم تتكرر فى التاريخ البشرى» فى زمن قصير!
ويترتب على هذه الزيادة ضغط هائل على الخدمات فى ظل موارد محدودة، وأحد هذه الضغوط هو الحاجة إلى زيادة عدد الفصول لاستيعاب هذه الزيادة الإضافية لمجرد الحفاظ على مستوى كثافة الفصول الحالى الذى يشكو منه الجميع وترجمته بالأرقام إضافة حوالى ٩٠ ألف فصل جديد فى المرحلة الابتدائية على مدى السنوات الثلاث المقبلة «تتكلف نحو ١٥ مليار جنيه»، وليست التكلفة هى المشكلة الوحيدة بل هناك تحدى توفير الأراضى لبناء مدارس جديدة وهو تحدٍّ يزيد الأمر صعوبة لاسيما فى المناطق الريفية التى ستضطر الدولة للتضحية بمزيد من الأراضى الزراعية لتبنى عليها مدارس!
■ ■ ■
هناك تساؤلات مشروعة ولست أقلل من أهميتها تعكس رؤى ذات دلالة.
التساؤل الأول: كيف نقول إن فى مصر مشكلة سكانية والصين تفوق مصر سكانياً وتحقق تقدماً اقتصادياً هائلاً؟
والإجابة أن تجربة الصين تمكنت من خفض معدلات الزيادة السكانية باتباعها سياسة الطفل الواحد، وقد رأيت بنفسى أثناء زيارة للصين أن لكل حى «informer»، أشبه بالمخبر، الذى يبلغ رئاسته عن الستات الحوامل، وخشية الغرامة الكبيرة تضطر الأم إلى إجهاض الجنين، وهذا مشروع فى النسق الصينى. إن سياسة الطفل الواحد ساعدت فى إحداث نهضة اقتصادية، ذلك أن تخفيض عدد الأطفال أدى إلى توجيه موارد التعليم إلى أعداد أقل، مما أدى إلى طفرة نوعية فى التعليم ارتفعت بإنتاجية الجيل الجديد من الصين، وكان هذا المنتج سبباً فى القفزة الهائلة التى أذهلت العالم. وصادرات الصين توازى ١٠٠ ضعف صادرات مصر وبراءات الاختراع فى الصين حدِّث عنها ولا حرج!
سؤال آخر يقول: كيف نشكو من الزيادة السكانية فى حين أن المناطق المأهولة بالسكان لا تتجاوز ٦٪ ولم نقم باستغلال باقى مساحة مصر؟
وقد استعنت بمرجعية مهمة هى مؤسسة «بصيرة» الراصدة الأمينة فى رؤية خروج الوطن، وعرفت أن قدرة المناطق الصحراوية على استيعاب السكان تبدو ضئيلة للغاية مقارنة بحجم الزيادة السكانية!
سؤال ثالث: تشكو بعض الدول الأوروبية التى شهدت تراجعاً فى معدلات السكان من النقص فى سن العمل وتعانى مجتمعاتها «تشيخ».
ولنكن واقعيين فإن المطلوب فى مصر ليس «تخفيض عدد السكان» بل التخفيض فى الزيادة السكانية، فبدلاً من أن تضيف مصر ٢ مليون و٦٠٠ ألف مولود فلنخفض هذا العدد إلى مليون مولود وهو هدف يمكن تحقيقه لو اكتفت كل أسرة بطفلين، ولابد من ذكر حقيقة رقمية أن عدد المواليد السنوى فى مصر يساوى مجموع مواليد أربع دول أوروبية مجتمعة هى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا!!
■ ■ ■
إن المشكلة قائمة ولكنها لا تحظى إلا باهتمام موسمى وهى «معوق تنمية» وليست «ضمان قوة».
والاهتمام الموسمى لا يحل قضية ويعكس عدم الجدية مثلما أخذت الصين قرارها سياسة الطفل الواحد.
إننا- بكل أسف- نتفرج على «الرياضة المسائية» التى تنتج بعد شهور مواليد! ونفرح ونهلل ونعتبر قدوم صبى عزوة وسنداً ونقيم للمولود «حفل السبوع التقليدى» ولا نفكر فى قضايا بلد وإمكاناته، وعلينا أن نجد للطفل مقعداً فى فصل مدرسى وسرير فى مستشفى. لا أحد يعلم أنها مشكلة متعددة الأبعاد ولها تأثيرات سلبية على جودة الحياة وهى عبارة يسمعها الملايين دون فهم لمحتواها أو فحواها.
إنها- أى هذه الزيادة السكانية- قضية معنوية مؤثرة على جهود التنمية فى مصر، ولست أبالغ إذا قلت وعلى الاستقرار السياسى، ناهيك عن سلبيات الزحام الذى يصفه عالم فى حجم يحيى الرخاوى محرض على الجريمة.
نعم إن الزيادة السكانية تؤدى حتماً إلى تراجع نوعية الحياة وإلى تراجع فى إتاحة الخدمة الأساسية وإلى تدنى جودة هذه الخدمات، كما تؤدى إلى السلوكيات المتدنية والأخلاق العامة. ولا تزال ثقافة المصريين منعدمة فى فهم سلبيات الزيادة السكانية التى ثبت أنها معوق للتنمية لا ضمان قوة! هناك أمر آخر يغيب عن ثقافة المصريين وهو أن عدد السكان أحد محددات الأمن القومى، والمفهوم أن نظريات الأمن القومى لا تعتمد فى قياس قوة الدولة على عدد السكان فحسب إنما تعتمد فى قياس قوة الدولة على خصائص السكان الصحية والتعليمية وقدرتهم على الابتكار والإبداع والقدرة على ممارسة أنشطة اقتصادية. الهدف هنا أن زيادة عددية تعد إضافة للقوة الشاملة للدولة. ويعود السؤال يداهمنا: هل الزيادة «معوق تنمية» وليست ضماناً للقوة؟! إنها معوق للتنمية، والأرقام لا تكذب أو تتجمل!
«وما زلت مهموماً بالقضية السكانية».
نقلا عن المصرى اليوم